الشهداء يرثون حالنا في تونس

الشهداء يرثون حالنا في تونس

20 ابريل 2014

عائلات شهداء وجرحى في الثورة يحتجون إبريل 2014 (Getty)

+ الخط -
أصدرت المحكمة العسكرية في تونس، قبل أيام، أحكامها المتعلقة بقضية شهداء الثورة وجرحاها، وهي التي تحتوي ملفاتها على أهم القضايا المرفوعة التي وجهت التهمة فيها إلى أبرز أركان النظام السابق، من ضباط أمنيين رفيعين، وصولاً إلى الرئيس المخلوع، زين العابدين بن على، ووزيري الداخلية اللذين توليا، في الأسابيع الأخيرة قبل سقوط النظام، إدارة الشأن الأمني، وقمع المظاهرات السلمية التي اندلعت في مدن تونسية عدة، وعمّت في أقل من شهر مناطق البلاد، فسقط في أثنائها مئات الشهداء وآلاف الجرحى. بعد أطوار متعددة ومتقلبة ونبش في آلاف الملفات والوثائق، وبعد تردد كثير، سحبت القضية من القضاء المدني، فأحيلت إلى القضاء العسكري الذي أصدر الحكم. لم يحبس الناس أنفاسهم ليلة 12 أبريل/نيسان الجاري، على عكس ما انتظر بعضهم، لأن مشاغل أخرى كانت قد استولت على مداركهم وحواسهم.
وبقطع النظر عن حيثيات الأحكام، وما استند إليها من قرائن ووقائع، وطريقة تكييفها بما يتلاءم معها من قوانين واجتهادات وتأويلات، فالثابت أنها شكلت صدمةً ما زالت أرجاؤها تتردد، ليس فقط لدى عائلات الشهداء، بل لدى الرأي العام الشعبي والطبقة السياسية، أحزاباً وشخصيات بشكل خاص. مع ذلك، الأمر لم يكن مفاجئاً لبعضهم، لو انتبهنا إلى المسارات التي مرت بها أكبر محاكمة "لرموز النظام السابق" بعد الثورة. فما هي السياقات التي حفّت صدور الأحكام؟ وما تداعيات ذلك على المشهد السياسي التونسي، في المستويين، القريب والمتوسط؟
ما إن أفضت انتخابات 23 أكتوبر/تشرين أول 2011 إلى إرساء مؤسسات السلطات المؤقتة، أي المجلس التأسيسي، المكلف النظر في مهمتيه الأساسيتين، صياغة الدستور والقوانين، إضافة إلى مؤسسة رئاسة الحكومة، ورئاسة الجمهورية، حتى أصبحت قضية الشهداء مسألة ثانوية، وانفض الجميع من حول عائلات الشهداء، ولم ترافقهم في ذلك الطريق الوعر والموحش، سوى جمعيات جديدة ناشئة أعوزتها الإمكانات والتقنيات عن إيجاد لوبيات ضغط فاعلة. انحصر الأمر في فريق صغير من المحامين الذين لم تعرف لهم تجارب ذات شأن في القضايا الحقوقية والسياسية التي عرفتها تونس قبل الثورة، أو بعدها، باستثناء بعض الأسماء. لذلك، يعدهم  كثيرون من زملائهم، على الرغم من تقدير جهدهم الاستثنائي، محامين من الصف الثاني وبقطع النظر عن الأسباب التي أدت إلى هذه الوضعية، فإن الوسط القضائي، بقضاته ومحاميه، فضلاً عن الدوائر الإعلامية والسياسية، لم يخف مؤاخذاته على إدارة الملف بشكل مهني وحرفي، إذ أنحى عديدون منهم باللائمة على المحامين بشكل خاص، للتعاطي الأخلاقي على حساب الحرفية والمهنية، كسباً للمزاج الشعبي، فكأن إحساساً خاطئاً انتاب هؤلاء بأن المعركة مربوحة مسبقاً، لوجاهتها الأخلاقية، فالعدل منتصر للشهداء بطبعه، وربما عوَّل بعضهم على المزاج الشعبي، الضاغط في مثل هذه القضايا عادة.

بعد أشهر قليلة من تحريك القضية،  سحبت هذه الأخيرة من القضاء المدني، لفائدة القضاء العسكري. كان ذلك قد تم في ظرفٍ ارتفعت فيه أسهم المؤسسة العسكرية المنتصرة للشعب، والتي كانت نصير الثورة. مقابل ذلك، كان القضاء المدني، آنذاك، عرضة لهجمات عنيفة، تدعو إلى تطهيره من رموز الفساد. ولكن، يبدو أن جيوب الممانعة وآلاف المسالك القانونية المعقدة، وغياب الإرادة السياسية الكافية، قد عطلت كل هذه المشاريع. استبشر الناس تفادياً لتلك الشبهات، عند إحالة الملف إلى المؤسسة العسكرية.
يبدو أنه، وبعد سنتين، قد تغير المشهد القضائي، بعد محاولة القضاء المدني التدارك وتعديل صورته، فخاض جملة من المعارك، طوراً باسم الاستقلالية، وآخر باسم هيبة القضاء، على غرار ما وقع أخيراً، مع المحامين، كما أن شكوكاً وظلالاً قد مست المؤسسة العسكرية، في علاقة بأسرار يوم الفرار. وزادت تلك الظنون تصريحات القادة العسكريين الذي قدموا، بعد استقالاتهم في الأشهر الماضية، سردياتٍ جديدة للثورة، صورت بعض المتهمين "أَبطالا"، ما جعل بعضهم يتحدث عن إعادة صياغة الصفقات الكبرى التي تعيد تقسيم الأدوار، وتحديد الحدود والمهمات.
كما أن تأخر انطلاق مسار العدالة الانتقالية، والعجز عن صياغة نموذجٍ تونسيٍ يتعلق بهذا الشأن، وعدم التوافق، إلى حد الآن، على تشكيل هيئة الحقيقة والكرامة، بعد توالي نحو خمس حكومات، أعطى انطباعاً بأن الملف ليس في قائمة الأولويات. ويشعر تونسيون عديدون بأسى، فالقضية كادت أن تتحول إلى "أصداء محاكم"، خصوصاً وقد تم تناولها بشكل روتيني من الإعلام التونسي الذي اقتصر على سرد موجز للوقائع في النشرات الإخبارية المتباعدة، فلا يذكر التونسيون أن قضية الشهداء مثلت ركناً جدياً في أجندات وسائل الإعلام السمعي والبصري.
تم إطالة النظر في القضية وتمطيط الزمن، أو هكذا خيل إلى بعضهم، فكان للمتهمين متسع من الوقت، لإعادة تشكيل الصورة. ونشطت آلات الغسيل، وبفضل مواد فائقة النجاعة والفاعلية، لم تعد صور متهمين عديدين بالملامح نفسها،  وبالقسمات القاسية التي رُسمت في مخيلات الناس بعيد الثورة، كما أن صورة الأمنيين لم تعد بالضرورة صورة الجلاد الذي قمع مناضلي و ناشطي حقوق الإنسان، وغيرهما من الأصوات الحرة، بل تحولت تلك الصورة، بعد الأعمال الإرهابية التي شهدتها تونس، إلى صورة حامي البلاد، ولعل في استشهاد عديدين من أبناء المؤسسة الأمنية، ما أعاد ترتيب تشكيل الصورة، سواء كان الأمر مرتباً، أو جادت به المصادفات. ولم يكن السياق مواتياً.
وقد شكلت الاختبارات الأمنية العنيفة التي عرفتها تونس صورةً مغايرة لرجل الأمن، بعد خلق فائض من الحاجات إليه، فتنامى الطلب الاجتماعي عليه. وربما وجد بعضهم، أو حتى من أوساط ومواقع أخرى، الفرصة مواتيةً، لتصفية الحساب مع الذين تجرأوا عليهم، فعادت مظاهر التصدي العنيف والتعامل الخشن مع المواطنين، من خلال عمليات المداهمة المتكررة للمشبوهين فيهم، حتى في قضايا الحق العام. نقلت الصور التي بثها التلفزيون الوطني، في الأسبوع الماضي، في أثناء لقاء جمع النجم الرياضي الساحلي في مدينة سوسة بمضيفه النادي الرياضي الصفاقسي، العنف المتنامي الذي لم يسجل أحياناً، حتى أيام بن علي. ما حدا بوزير الداخلية إلى استقبال الشاب الذي تعرض إلى كسور، والاعتذار له عما صدر من بعض رجال الأمن، مع إذنه بفتح تحقيقٍ، لم يعد يثق التونسيون كثيراً في جدواه. غير أن التحاق كوكبة أخرى من الشهداء، بعد سقوط النظام، وأساساً ممن قتلتهم يد الإرهاب الغادرة (الشهيدين شكري بلعيد ومحمد البراهمي) أحدث حالة روحية وسياسية جديدة، وكان فرصة لصياغة التفاف شعبي، ولكن من نوع آخر، جسَّدها تعدد روابط المجتمع المدني، والتحركات الأسبوعية التي ابتكرت أشكالاً جديدة من التعبئة واليقظة (تظاهرات فنية، بيئية، ومضات ...). المصادفات الغريبة والمرّة أَحيانا تذر الرماد المالح على العيون الدامعة أصلاً، فتجعل المشهد أكثر ضبابية وشكاً. في ذلك كله، يبدو أن شهداء الثورة تواروا خلف ما حلَّ بنا.
وبعيداً عن التشكيك في أحكام القضاء، فإن جملة التزامنات الغريبة التي حفّت صدور الحكم هي التي باتت تثير الشكوك، من ذلك أن الأحكام صدرت متزامنةً مع موجة من الهلع، وخوف التونسيين على أجورهم، بعد تصريحاتٍ متتاليةٍ للمسؤولين الحكوميين، بمن فيهم رئيس الحكومة، عن كارثية الوضع الاقتصادي وعجز الحكومة، ربما عن خلاص أجور الموظفين في شهر أبريل/نيسان الحالي، وغيرها من الثقب السوداء المخيفة في الوضع الاقتصادي للبلاد.  كما أن الأحكام صدرت، بعد نجاحاتٍ أمنيةٍ غير مسبوقة للمؤسسة الأمنية، فكأن الحكومة الحالية عثرت على زر النجاح في هذا المجال، فبعد أيام قليلةٍ من إِحباط عمليةٍ كبرى في صفاقس، ربما كان التخطيط جارياً فيها لصنع قنبلة نووية تقليدية، تصدرُ تلك الأحكام؟
حينئذٍ في هذا المناخ الذي تم فيه شد انتباه الناس إلى قضايا بعينها، وإنتاج مشاعر وعواطف، تم تثبيتها على الأجور والعمليات الإرهابية المحبطة، تم إصدار تلك الأحكام أيضاً.
موجة الاستياء التي عبرت عنها مختلف الأحزاب السياسية، باستثناء حزب نداء تونس الذي يشكل جزءاً مهماً من بقايا النظام السياسي السابق، أثارت، بدورها، لأسباب لا تخلو من وجاهة، استهجان عائلات الشهداء والجرحى الذين رأوا فيها صحوة ضمير متأخرة لا تجدي نفعاً، أو استثماراً لقضية الشهداء من أجل حملات انتخابية مبكرة.
ولا يقف الأمر عند هذا القلق والحرج الأخلاقي الذي ينتاب الجميع، وقد خذلوا عائلات الشهداء أكثر من ثلاث سنوات، وتناسوهم، إن لم يكن قد تنكر إليهم بعضهم، بل هناك خشية متنامية لدى أوساط عدة من أن يكون إطلاق سراح المورطين آخر قطعة لإعادة تشغيل ماكينة النظام القديم، ولو كان الوقود دماء الشهداء.
يرافق هذا الحرج الأخلاقي إحراج سياسي، ذلك أن طلب إحداث دوائر قضائية مختصة، وفق قانون يعرض حاليا على المجلس التأسيسي، ناهيك عن موقف السلطات التأسيسية المؤقتة، على غرار رئاسة المجلس الوطني التأسيسي ورئاسة الجمهورية (باستثناء رئاسة الحكومة)، قد يكون سابقةً خطيرةً، تشرع للتدخل في سير القضاء واستقلاله، وتفتح باباً لخرق الدستور.
تضع الأحكام الصادرة الطبقة السياسية أمام خياراتٍ عسيرةٍ، ولكن الثابت والوحيد أنها لن تعيد الشهداء أحياء، حتى يرثوا ما آلت إلينا أحوالنا بعدهم: ثورة تتلف، وبلاد على حافة الإفلاس، ونظام يهيئ نفسه الى العودة. يهنأ الشهداء، وهم أحياء عند ربهم يرزقون. ولكن، ما لم ننصفهم، سيثيرون كوابيس تظل تزعجنا عقوداً مقبلة.
 
7962F3C9-47B8-46B1-8426-3C863C4118CC
المهدي مبروك

وزير الثقافة التونسي عامي 2012 و2013. مواليد 1963. أستاذ جامعي، ألف كتباً، ونشر مقالات بالعربية والفرنسية. ناشط سياسي ونقابي وحقوقي. كان عضواً في الهيئة العليا لتحقيق أَهداف الثورة والعدالة الانتقالية والانتقال الديموقراطي.