"الجزيرة" في مواجهة الإعلام الرسمي

"الجزيرة" في مواجهة الإعلام الرسمي

04 نوفمبر 2014
+ الخط -

عندما ظهرت قناة الجزيرة سنة 1996، كان المشهد الإعلامي العربي يراكم عجزه عن التطوير، ويجتر آليات الخطاب الخشبي ذاتها، وأدوات التواصل مع المشاهد. ولأن التلفزيون يشكل أداة التأثير الأولى للمتلقي، فقد حرصت الأنظمة العربية على تسييج قنواتها بمحاذير شتى ووسائل رقابية متعددة، حولتها إلى أبواق تردد الخطاب الرسمي، وتنفثه في روع المتلقي من أجل تشكيل وعيه وتنميطه والتحكم فيه.

فقد كانت التلفزيونات الحكومية تتمتع باحتكار تام للحدث، وبدلاً من تكوين العقول، حرصت على تغييبها وتحويلها إلى أدوات طيعة خدمة للسياسات الرسمية، سواء بشيطنة المعارضين أو ممارسة القصف الإعلامي على الخصوم، في حالة الخلاف بين العواصم العربية المتصارعة دوماً.

وقد استفادت في هذا من العدد الكبير من الناس الذين لا يقرأون أي صحيفة يومية، أو يستمعون لإذاعات أجنبية، أولئك الذين وهبوا أنفسهم، جسداً وروحاً، للتلفزيون الحكومي مصدراً وحيداً للمعلومات.

وهنا، يأتي التلاعب بالعقول، حيث تعمد القنوات الرسمية، أو الموالية للأنظمة، إلى إخفاء الحقيقة، حيث تعرض شيئاً آخر، غير الذي يجب عرضه بوصفها وسيلة إعلامية، مهمتها الأساسية إعلام المشاهد بالمستجدات، من دون تشويه أو تغيير أو تحريف. فهي تعيد تشكيل الحدث، بحيث يأخذ معنى لا يقابل الحقيقة على الإطلاق، وهو أمر يمكن أن نستدل عليه بالتغطيات الرسمية للأحداث الكبرى، مثل حرب الخليج الأولى، أو عن الصراعات السياسية الحادة في بلدان عربية كثيرة، حيث يظل ناشطو المعارضة غرباء عن ذهن المواطن، ولا يحمل عنهم سوى صورة هلامية مشوهة، لا تكفي لإصدار حكم موضوعي عليهم، أو محاكمة أفكارهم وتصوراتهم، كما هي، وليس كما يصورها الإعلام الرسمي.

ومن جهة أخرى، كان الإعلام الغربي منحازاً في تغطيته القضايا العربية، فهو يقدم وجهة النظر التي تتناسب مع جمهوره، أو على الأقل التي تتناسب مع مصالحه القومية العليا، وهو أمر ملحوظ في تغطية القنوات الغربية لكل مسألةٍ، تكون فيها الشعوب العربية طرفاً، مثل القضية الفلسطينية.

ومن هنا، جاءت أهمية اللحظة الفارقة لظهور قناة الجزيرة، حيث حققت جملة أهداف مركزية، يمكن إيجازها كالتالي:

ـ شكلت برامج قناة الجزيرة صدمةً لوعي المشاهد العربي، فلأول مرة يجد نفسه أمام وجهات نظر مختلفة، بل ومتناقضة، وهو ما أوجد حالة نقدية هائلة، من حيث محاولة فهم طبيعة هذه الآراء، رفضاً لها أو ثناء عليها.

ـ خلافا للقنوات الرسمية، حيث كان الإعلاميون أقل قوة وفعالية من صحافيي الجزيرة، من حيث جرأة الأسئلة ووضوح الطرح، وتنوع الضيوف المتحاورين، ما جعل المشاهد العربي يقوم بمقارنات بين أداء تلفزيون الدولة الرسمي وحيوية قناة الجزيرة، خصوصاً وأن الفارق لم يكن في الإمكانات (ميزانيات القنوات الرسمية أكبر من ميزانية الجزيرة أحياناً كثيرة)، وإنما في جودة العمل وتطور طرق الأداء.

ـ تمكنت النشرات الإخبارية للجزيرة (خصوصاً المسائية) من جمع متابعين أكثر من كل الذين يتابعون نشرات التلفزيونات الرسمية، أو مطالعي الصحف الحكومية، مستفيدة في ذلك من الجوانب التقنية والإخراجية من جهة، ومن السبق الصحافي الذي حققته القناة عند تغطيتها صراعات كبرى، هي محل اهتمام المشاهد (العدوان الصهيوني على الشعب الفلسطيني، الغزو الأمريكي لأفغانستان والعراق وحروب الشيشان والصومال وغيرها).

ـ لعبت قناة الجزيرة دور المتنفس الإعلامي للمواطن العربي المقموع، خصوصاً بنقل وقائع المظاهرات والاحتجاجات الجارية في الشارع العربي، وهو أمر يفسر مدى الاحتقان الذي تتعامل به الأنظمة الرسمية مع قناة الجزيرة في تغطيتها الثورات العربية، وحرصها على منع القناة من التغطية انطلاقا من أراضيها، وصولاً إلى محاكمة صحافييها، والزج بهم في السجون (وضعية مراسلي الجزيرة في مصر بعد الانقلاب، أو زمن حسني مبارك)، وأحيانا قتل بعض المراسلين أو العاملين في القناة، والغاية حجب ما يجري من وقائع على الأرض، حتى لا تنقله الجزيرة.

ـ منحت قناة الجزيرة لمثقفين ومفكرين عربٍ كثيرين الفرصة للمرور إلى الشهرة العامة، وتبليغ أفكارهم وتصوراتهم إلى الجمهور العريض، وهي مناسبة لم تكن لتمنح لهم في ظل القنوات المدجنة رسميّاً، والتي تحرص على استضافة مثقفي السلطة ودعاة الطاعة المطلقة للحكام.

ـ قدمت قناة الجزيرة نموذجاً لتلفزيون ثقافي، في بث البرامج الوثائقية والتسجيلية والندوات الثقافية واقتباس الأعمال الكلاسيكية، وهو ما مثل فرصة للجمهور العريض للاطلاع عليها، في ظل تراجع القراءة الجادة وانتشار ظواهر الأمية الثقافية.

كل هذه العوامل وغيرها هي التي منحت قناة الجزيرة تميزها وحضورها وتأثيرها الواسع، وجعلها موضوعاً للبحث والدراسة، وعرّضها، أحياناً، إلى أزمات حادة (تهديدات وزير الدفاع الأميركي الأسبق، دونالد رامسفيلد، للقناة، بسبب تغطيتها حرب الفلوجة مثلاً)، من دون أن يعني هذا أن القناة لم تكن تقع في أخطاء، أو في تدني الأداء المهني، لكنها تظل، بصورة عامة، القناة العربية الأكثر انتشاراً وتأثيراً، وهو ما يحملها مسؤولية أكبر من أجل مزيد التطوير والتمييز بين الدعائي والموضوعي وعدم السقوط في لعبة تشكيل الوعي، لمصلحة جهات دون أخرى (وهو اتهام يوجهه لها خصومها)، لأن القناة، في النهاية، تتوجه إلى جمهور متفاوت المدارك، يتراوح بين جمهور أكثر ثقافة واطلاعاً من جانب وجمهور أقل من ذلك في الجانب الآخر. وهو ما يقتضي حذراً وانتباهاً في استخدام سلطة الشاشة، ولأن من يمتلك اليوم سلطة الصورة سيغدو، من دون منازع، صاحب السلطان، وكما يقول ريجيس دوبريه "سيد الصورة هو سيد البلاد".

B4DD7175-6D7F-4D5A-BE47-7FF4A1811063
سمير حمدي

كاتب وباحث تونسي في الفكر السياسي، حاصل على الأستاذية في الفلسفة والعلوم الإنسانية من كلية الآداب والعلوم الإنسانية بصفاقس ـ تونس، نشرت مقالات ودراسات في عدة صحف ومجلات. وله كتب قيد النشر.