خطاب عباس بين البلاغة وغياب البرنامج

خطاب عباس بين البلاغة وغياب البرنامج

04 أكتوبر 2014

محمود عباس يلقي خطابه في الأمم المتحدة (26سبتمبر/2014/أ.ف.ب)

+ الخط -

بعد انتظارٍ طويل من الشعب الفلسطيني، في الوطن والشتات، بمختلف قواه السياسية، لسماع المفاجأة التي سيفجرها الرئيس محمود عباس أمام الجمعية العمومية للأمم المتحدة، أو القنبلة كما وصفها بعضهم في القيادة الفلسطينية، كانت المفاجأة أنه لا توجد لا مفاجأة ولا قنبلة.

ولكن، تضمن الخطاب بلاغة قويةً، وغير متوقعة، من الرئيس، وخصوصاً في وصفه الجرائم الإسرائيلية، وما حدث في الحرب الأخيرة على شعبنا في قطاع غزة، بأنها مثلت إبادة جماعية لشعبٍ أعزل. وتشخيصه للمشروع الإسرائيلي في المنطقة، والمتمثل بتحويل الضفة الغربية إلى كانتونات صغيرة متناثرة ومحاطة ببحر من المستوطنات الإسرائيلية، للحيلولة دون إقامة الدولة الفلسطينية على حدود عام 1967، وعاصمتها القدس الشريف.

وأهم ما جاء في خطاب الرئيس أبو مازن، هذه المرة، اعترافه الصريح بفشل المفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية بالرعاية الأميركية، والذي يعني اعتراف الرئيس بفشل مشروعه، عندما حصر العلاقة مع إسرائيل من خلال المفاوضات المباشرة، في وقتٍ تم التخلي فيه عن باقي الخيارات المساندة للمفاوضات، والتي تركت الجانب الفلسطيني ضعيفاً أمام  منطق الأمر الواقع والقوة والعنجهية والغرور والصلف الإسرائيلي، ما أدى إلى إيصال المفاوضات، والعملية السلمية برمتها، إلى طريق مسدود، ما دفع كثيرين من التيار المؤمن بالمفاوضات إلى إعادة النظر بمواقفهم اتجاه المفاوضات، بعدما وصلوا إلى قناعة أنها أصبحت عبثية ومؤذية ومكلفة، وخصوصاً أن الحكومات الإسرائيلية تستخدمها غطاء لاستمرار سياساتها، سواء الاستيطانية والتهويدية وللعلاقات الدولية، وخصوصاً فيما يتعلق بمواجهة الخطوات الدولية، ولاسيما الأوروبية، لفرض مقاطعة على المنتوجات الاستيطانية، ومقاطعة مؤسسات أكاديمية إسرائيلية كثيرة، وغيرها من المشاريع المشتركة أوروبياً وإسرائيلياً.

لذلك، شكل خطاب الرئيس رسالة واضحة، وغير قابلة للتأويل، وهي إنه لا عودة نهائياً للمفاوضات الثنائية بالرعاية الأميركية، وإعادة تدويل القضية الفلسطينية، والالتحاق بالمؤسسات الدولية. وهنا، لا بد من الإشارة إلى أن تدويل القضية الفلسطينية سيكون في أسوأ الأحوال أفضل بكثير من الاستمرار في  المسار القديم، والذي ثبت عقمه وفشله وعبثيته، إلا أنه من الضروري التأكيد على أن من  أسباب فشل مسار التفاوض ما لا يتعلق فقط بالسلوك الإسرائيلي الرافض كليا كل المساعي الفلسطينية، بل إنه مستمر في مشروعه الاستيطاني الإحلالي الذي ترى  شريحة واسعة من اليمين الإسرائيلي، وهي التي تحكم إسرائيل في الوقت الحالي،  أنها لم تتمكن، بعد، من تنفيذ مشروعها عبره، لكنها ترى في الوضعين، الإقليمي والدولي، فرصة سانحة وذهبية لإنجازه، ما يؤكد أن عملية السلام، بالنسبة لهم، ما هي إلا غطاء للاستمرار في المشروع الصهيوني، إلا أن الجانب الفلسطيني الذي ألغى كل الخيارات الأخرى، ما أفقده كل الأوراق المساندة، والداعمة للعملية التفاوضية، كان لها العلاقة المباشرة في تعنت المواقف الإسرائيلية وتصلبها، ما جعل المشروع الاستيطاني مريحاً ورابحاً وذا جدوى سياسية واقتصادية كبيرة، والذي يعني نجاح المشروع اليميني في الخارطة السياسية في إسرائيل، ما أوصلها إلى الحكم، بعد فوزها في الانتخابات الأخيرة للكنيست التي جرت في العام الماضي، وها هم المستوطنون، اليوم، يحكمون إسرائيل، ما جعل إسرائيليين كثيرين يقررون الانتقال إلى السكن في مستوطنات الضفة الغربية، لأسباب كثيرة، أهمها انخفاض أسعار الشقق السكنية في المستوطنات، مقارنة مع أسعارها في إسرائيل، إضافة إلى بناء أكثر من 600 مصنع إسرائيلي في مستوطنات الضفة الغربية، وإقامة جامعة كبرى في مستوطنة إرئيل في شمال الضفة، إضافة إلى سرقة المستوطنين معظم الموارد والثروات الفلسطينية من مياه وصخور ومعادن، وغيرها من الموارد.

وهنا، وبعد أن وضع الرئيس، أخيراً، نهاية للعملية التفاوضية بشكلها القديم، والتوجه للمؤسسات الدولية، القانونية منها والسياسية، لا بد من التأكيد على أن الرهان على هذه المؤسسات وحدها فقط لن يوصلنا إلى تحقيق الدولة الفلسطينية على حدود الرابع من يونيو/حزيران 1967، من دون الاستفادة من الأوراق الضاغطة الأخرى، وأهمها إعادة اللحمة الوطنية للشعب الفلسطيني،  من خلال تنازل حركتي فتح وحماس عن مواقف كثيرة لإنهاء صفحة الانقسام السوداء، وإعادة إحياء المقاومة بأشكالها كافة، بعد تحريمها أكثر من عقدين، وإعادة النظر جذرياً في الدور الوظيفي للسلطة، وبالتحديد العلاقة الأمنية والاقتصادية مع إسرائيل، وإعادة النظر في مجمل الاتفاقيات الفلسطينية الإسرائيلية، وأهمها الاعتراف الفلسطيني بدولة إسرائيل، من دون الاعتراف الإسرائيلي بالحقوق والدولة الفلسطينية.

خلاصة الحديث أن التخلي عن المقاومة وقبول الجانب الفلسطيني بدور وظيفي هزيل للسلطة ومريح جداً، لحكومات اليمين الاحتلالية، كان قد ساهم بشكل كبير في إفشال المفاوضات واتساع الاستيطان. وأيضاً استمرار التخلي عن تلك الأوراق، والتخلي عن الفعل الفلسطيني، بكل أشكاله والرهان، في المرحلة المقبلة، على المؤسسات الدولية فقط، لن تكون نتائجه لنا كفلسطينيين أفضل من نتائج المفاوضات المباشرة، وسنضيع عشرين سنة أخرى بدون جدوى.