تأجيل الانتخابات الفلسطينية إسرائيلياً

تأجيل الانتخابات الفلسطينية إسرائيلياً

04 مايو 2021
+ الخط -

كما كان متوقعا، قرّر الرئيس الفلسطيني، محمود عباس، تأجيل الانتخابات التشريعية بدون تحديد موعد، لعدم موافقة إسرائيل على إجرائها في القدس، بشكل فاق حلم الحركة الصهيونية بمستوى تحكّمها بتفاصيل الحياة السياسية والخدماتية الفلسطينية، متجاوزا ما سمحت به اتفاقية أوسلو من تحكم إسرائيلي بالحالة الفلسطينية، حيث لم تلقَ مختلف المقترحات البديلة قبول قيادة حركة فتح والسلطة الوطنية، بتحويل الموقف الإسرائيلي إلى اشتباك ميداني، اعتمادا على هبّة المقدسيين القوية التي أجبرت الاحتلال على إزالة الحواجز الحديدية من "باب العامود" في القدس، وتثبيت صناديق الاقتراع بكاميرات التصوير أمام بنادق جيش الاحتلال، ما أزاح عن إسرائيل حرجا كبيرا، كان من الممكن أن تتعرّض له أمام الرأي العام الدولي، ويعرّضها للانتقادات، بسبب منع جيشها الشعب الفلسطيني من انتخاب ممثليه، في ظل ادّعاء إسرائيل أنها الواحة الديمقراطية الوحيدة في المنطقة. إلا أن قرار قيادة السلطة و"فتح"، ووراءها فصائل صغيرة أو منقرضة، عجز جزء منها عن أن يشكل قائمة انتخابية، ولو بحدها الأدنى، وهو حسب قانون الانتخابات الفلسطينية 16 مرشّحا، أنقذ الموقف الإسرائيلي من الحرج. ولم تكن تداعيات قرار التأجيل منع إحراج إسرائيل في العالم، إنما أكثر من ذلك، بعدم تفهم عدة دول قرار التأجيل، ومناشدتها التراجع عنه، ما يعني تراجعا في مصداقية السلطة أمام تلك القوى الدولية، والظهور بالتمسّك بالسلطة ومصالحها، وليست بمصالح الشعب الفلسطيني، وغير معنية بإحداث تغييرات وإصلاحات، ما سيضعفها كثيرا أمام تلك الدول، وخصوصا الأوروبية، والتي تراهن قيادة السلطة على دور لها، ماليا، أو بالضغط على إسرائيل، الأمر الذي سقط في اختبار الانتخابات في القدس. وقد كتبت الإسرائيلية، عميرة هاس، في صحيفة هآرتس (30/04/2021)، أن قرار التأجيل جاء أقرب لمصالح إسرائيل من المصالح الفلسطينية.

قرار التأجيل قد يفتح الباب أمام تصدّعات وانشقاقات جديدة داخل حركة فتح، فلم يكن القرار نتاج مشاورات ودراسات لمؤسسات الحركة

على الرغم من الإجماع الفلسطيني على إجراء الانتخابات في القدس، دعايةً وترشّحا وانتخابا، إلا أن عدم استجابة قيادة حركة فتح والسلطة الفلسطينية للمقترحات البديلة من بعض الفصائل والقوائم الانتخابية أضعف قيادة السلطة وقدرتها على إقناع الرأي العام الفلسطيني، ما أوجد معارضات كثيرة، سواء من فصائل كبرى مثل حركة حماس، وأوساط شعبية وأكاديمية وسياسية وثقافية، بما فيها فتحاوية لم تستوعب قرار تأجيل الانتخابات، وكانت معنية بإجرائها، على الرغم من ارتباط التأجيل أيضا بأزمة "فتح" الداخلية، إذ يخوض الانتخابات 680 مرشّحا فتحاويا ممن شاركوا في مؤتمرات الحركة أخيرا، وهم من بين 1389 مرشّحا موزعين على 36 قائمة، من بينها على الأقل ثلاث قوائم، كانت ستتنافس على أغلبية أصوات قواعد الحركة ومؤيديها ومناصريها، وهما القائمة الرسمية لحركة فتح، وقائمة الأسير مروان البرغوثي، والقائمة المدعومة من المفصول من حركة فتح، محمد دحلان، المقيم في أبوظبي. ومع أنه كان من المتوقع توحد أعضاء هذه القوائم تحت قبة المجلس التشريعي، بعد إجراء الانتخابات وإعادة بناء الحركة وتوحيدها، إلا أن قرار التأجيل قد يفتح الباب أمام تصدّعات وانشقاقات جديدة داخلها، فلم يكن القرار نتاج مشاورات ودراسات لمؤسسات الحركة، بل سيخدم القوى الأخرى، وخصوصا "حماس" التي ترى إسرائيل في فوزها، بعد كل محاولات كيّ الوعي الفلسطيني، ضربة لعقيدتها الأمنية والردعية، ما ستكون له تداعيات سلبية على مجمل منظومة الردع الإسرائيلي، والتي ستكشف فشل القوة العسكرية الإسرائيلية، وكسر الإرادة الوطنية، وإنتاج فلسطيني بالمقاسات الإسرائيلية. الأخطر من ذلك كله أن تصدّع "فتح" وتشققها سيؤثران سلبا على قدرة السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية من الاستمرار في الوفاء بالتزاماتها الأمنية وغيرها، ما قد يشيع فراغا وفوضى لا تريدهما إسرائيل نهائيا، لأن المشاريع والسياسيات الإسرائيلية، من الاستيطان والتهويد والتطبيع مع أنظمة عربية والتفرغ لمواجهة إيران ومحورها، مرتبطة باستمرار الهدوء والاستقرار في الساحة الفلسطينية، ما قد يؤدّي إلى أن تجد إسرائيل نفسها مضطرّة، في لحظة ما، لإعادة انتشار قواتها الأمنية والعسكرية في مدن الضفة وبلداتها ومخيماتها في مواجهة الشعب الفلسطيني، وهذا لا تريده إسرائيل، ومن أجله وقّعت اتفاقية أوسلو.

يفرض منطق الأمور والسياسة أن يُكمل أبو مازن قرار التأجيل بقرارات تصعيدية ضد إسرائيل، لمسؤوليتها عن منع الانتخابات في القدس

كشف حراك الانتخابات تعطشا فلسطينيا للمشاركة والتغيير، فقد تجاوزت نسبة التسجيل في لجنة الانتخابات المركزية الفلسطينية 93% ممن يحق لهم التصويت، وترشّح 36 قائمة انتخابية، تضم واحدة لحركة حماس وعدة قوائم لحركة فتح، وباقي القوائم لبقية الفصائل وقوائم محلية وعشائرية، ما أشاع انطباعا بأن المجلس التشريعي المقبل سيضم تشكيلة واسعة ومتنوعة، الأمر الذي قد يخلخل النظام السياسي الفلسطيني الحالي، والمنسجم مع المصلحة الإسرائيلية، حيث للمرة الأولى في تاريخ حركات التحرّر الوطني، يساهم الشعب الواقع تحت الاحتلال باستقرار دولة الاحتلال وهدوئها وأمنها. لذلك استفادت إسرائيل كثيرا من قرار التأجيل، لأنها ببساطة، وكأي قوة احتلال، لا تريد لعدوها أن يتحد، وأن ينتخب قيادة قوية، تكون قادرةً على تمثيله أمامها، ومصلحة إسرائيل تكمن ببقاء القيادة الفلسطينية الحالية غير المنتخبة والضعيفة شعبيا.
يفرض منطق الأمور والسياسة أن يُكمل الرئيس أبو مازن قرار التأجيل بقرارات تصعيدية ضد إسرائيل، لمسؤوليتها عن منع الانتخابات في القدس، ولكنه لم يفعل، وليس متوقعا أن يفعل، بل المتوقع إصداره قراراتٍ للتغطية على قرار تأجيل الانتخابات السياسية، ولتخفيف الاحتقان الشعبي ضد السلطة، وتوجيهه إلى الداخل، بالإعلان عن إجراء الانتخابات المحلية والبلدية، وهذه لها أهميتها في تجديد المؤسسات الخدماتية وتغييرها. لكن المتوقع أن تعمل إسرائيل، في غياب الانتخابات السياسية، وتداعيات الانقسام بين حركتي فتح وحماس، والتصدعات الداخلية الجديدة التي ستنشأ بعد قرار التأجيل، على تسهيل إجراء الانتخابات المحلية، لضرب ما تبقى من الصفة التمثيلية لمنظمة التحرير والسلطة وتفتيته، وأن تتعامل مع المجالس المحلية المنتخبة بوصفها ممثلا عن تجمعات الفلسطينيين، بغض النظر عن توجهات الجهة التي ستفوز.

مطلوب من عباس تدارك اللحظة الصعبة والمفتوحة على كل الاحتمالات، ومراجعة فورية للوضع الفلسطيني

وبذلك تكون إسرائيل قد نجحت في استغلال حالة الإرباك والتخبط والتصدّعات الفلسطينية بإسقاط السياسي والوطني الجامع، واستبداله بالخدماتي والحياتي المجزأ. وستمنح إسرائيل تسهيلات وخدمات للمجالس المحلية أكثر مما تمنحه للوزارة الفلسطينية المسؤولة عن المجالس المحلية والبلدية، لانسجام ذلك مع المصلحة والمشروع الإسرائيليين. وستعمل دولة الاحتلال على إقناع الأميركان والأوروبيين، وربما أنظمة عربية، بالتعامل مع المجالس المحلية من وراء ظهر السلطة. وعلى الرغم من ملاحظاتٍ على أداء السلطة وسياساتها، إلا أنها تبقى إطارا جماعيا يمثل الحالة الفلسطينية في الضفة. وقد يدفع تحفظ الأوروبيين عن تأجيل الانتخابات إلى التعامل مع تلك المؤسسات بشكل أوسع بكثير من شكل العلاقة والتعامل الحالي.
مطلوب من الرئيس محمود عباس تدارك اللحظة الصعبة والمفتوحة على كل الاحتمالات، ومراجعة فورية للوضع الفلسطيني، والعمل على انتخاب مجلس وطني جديد بمشاركة حركتي حماس والجهاد الإسلامي، لإعادة بناء الحركة الوطنية الفلسطينية قبل وقوع الفأس في الرأس.