الدساتير العربية الجديدة والعدالة الاجتماعية

الدساتير العربية الجديدة والعدالة الاجتماعية

20 يونيو 2014

في الاستفتاء على مشروع الدستور المصري (ديسمبر/2012/فرانس برس)

+ الخط -
تنهض "دستورانيّة الربيع العربي" على إمكانية قراءة النُصوص الدستورية المُنتجة، بعيداً عن كونها إعلانات عن الهوية الجمعيّة، أو مواثيق لتوزيع السلطة، أو صكوكاً للحقوق، كدساتير للسياسات العمومية، بالمعنى الذي تحاول فيه، بغضّ النظر عن طبيعتها المعيارية، أن تُقدّم نفسها جواباً على فورة الاحتجاج الشبابي والجماهيري والشعبي، التي جسدتها الانفجارات الثورية عام 2011.
هكذا يشكل دستورَا ما بعد الثورة في مصر وتونس حالة مدرسيّة لنا، يمْكن المُغامرة بتسمية كل منهما دستوراً للسياسات العامة، حيث تجاوبَ النص القانوني الأسمى مع سياقه الاحتجاجي، ومع فورة الطلب الاجتماعي الذي تسارع مع تأثير التحولات الإقليمية، وهو ما جعل صياغة الدستور تَعودُ بقوة إلى تبني نفس برنـامجيٍّ، طبع أجيالاً قديمة من الدساتير العربية والغربية.
وقد استند الدستور المصريّ على تراث الدولة الناصرية، ذات النزعة التدخليّة، وعلى دستورها البرنامَجِيّ الطابع و"الاشتراكي" الأسلوب. الدستور التونسي، كذلك، يسمح بالانتصار لفرضية أثر الاحتجاج الاجتماعي والسياسي على الصياغة ذات النفس البرنامجي، والحريصة على تدوين جزءٍ من الالتزامات الاقتصادية والاجتماعية للدولة، وتحديد الإطار المرجعي العام لتدخلاتها وسياساتها. خصوصاً أنه أفردَ فصلاً كاملاً للشباب، قوة فاعلة في بناء الوطن، مُلزماً الدولة بالحرص على توفير الظروف الكفيلة بتنمية قدراته، وتفعيل طاقاته، والعمل على تحمله المسؤولية، وتوسيع إسهامه في التنمية الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والسياسية.
ويوضّح استعراض ما يمكن توصيفه بدستور السياسات، داخل الوثائق التأسيسية لمرحلة ما بعد انفجارات 2011، كثافة الالتزامات التي يضعها الدستور على عاتق الدولة والحكومات، سواء في مجال السياسات بأبعادها الاجتماعية والاقتصادية والثقافية، أو من ناحية إبداء اهتمام أكثر تركيزاً على الجوانب الاجتماعية، من خلال سياسات الأسرة، سياسات المساواة، سياسات الحماية الاجتماعية والتغطية الصحية، وسياسات التعليم والبحث الجامعي. وتجعلنا هذه الكثافة، مثلاً، في حالة الدستور المصري، نتجاوز وضعية الدستور الذي يحدد الإطار القيمي والمرجعي والمذهبي للسياسات العمومية، إلى ما يشبه تصريحاً للسياسة العامة، أو برنامجاً حكومياً، أو حتى قانوناً، للميزانية السنوية، فالمادة 18 من الدستور المذكور تلزم الدولة بتخصيص ما لا يقل عن %3 من الناتج القومي الإجمالي للإنفاق الحكومي في مجال الصحة، فيما تلزم المادة 19 الدولة بتخصيص ما لا يقل عن%4 من ذلك الناتج، للإنفاق في مجال التعليم، ونجد الصيغة نفسها عندما يتعلق الأمر بالإنفاق العمومي في مجالات التعليم الجامعي (%2)، والبحث العلمي (%1).
السؤال الضروري، هنا، هل لهذه الكثافة من معنى؟ وهل ثمة فكرة مركزية ناظمة لكل هذه الالتزامات والحقوق الاقتصادية والاجتماعية؟
في الواقع، ساهمت الحالة الثورية التي شهدتها بلدان الربيع العربي في سياق انفجارات 2011، في عودة "يوتوبيا" المساواة والعدالة إلى المخيال السياسي الجمعي للشعوب التي ربطت بين الثورة و"العِيشْ" والكرامة. وعلى الرغم من دور متواضع لعبه اليسار عموماً في هذا الحراك الثوري، فإن إسهام نشطاء مدنيين منفتحين على دينامية الحركات الاجتماعية العالمية في النقاش العام، جعل جزءاً من المطالب التأسيسية يرتبط بفكرة الدستور الاجتماعي، والدستور المُفصل، المُستوحى من دساتير الجيل الرابع. هذه الدساتير التي جعلت النقاش بشأن مدى فعلية الحقوق الاقتصادية والاجتماعية، شبه متجاوَز، إذ تحولت الحماية القضائية لهذه الحقوق بشكل كبير، بغض النظر عن الطبيعة الإيجابية للحقوق الاجتماعية، انطلاقاً من الأسلوب الجديد المستعمل في كتابة هذه الدساتير "الاجتماعية"، والمتميزة بتدقيق وتفصيل كثيرين، مما يجعلها تتجاوز أزمة الخلل الذي طالما اتسمت به الصياغة الدستورية لقيم العدالة التوزيعية، وعدم وضوح القواعد الدستورية الضامنة للحقوق والحريات الاجتماعية وتحقيق المساواة.
مساءلة دساتير الربيع العربي، على ضوء الإطار المعياري لدساتير الجيل الرابع، تجعلها، على الرغم من ضغط فكرة العدالة الاجتماعية، داخل سياق الثورات، وعلى الرغم من كثافة الالتزامات الاجتماعية التي وضعتها هذه الدساتير على عاتق الدولة، بعيدة عن تمثل فكرة دساتير الحماية الاجتماعية، ومفتقدة، على الرغم من نفسها الاجتماعي، الروحَ الناظمة والفكرة المركزية، المُعبرة عن تصور اجتماعي/اقتصادي مُنسجم، حيث كثيراً ما يغلب، ما يسميه سمير مرقص، طابع "التهجين النصي المُضلل بين المتناقضات، والذي لا يمنع من تذييل بعض النصوص بكلمات حول العدل من دون الدخول في تفاصيل البنية القانونية". ذلك أن صياغة "دستور السياسات" لا توحي بوجود مرجعية فكرية ومذهبية واضحة ومنسجمة، تحدد الإطار العام للتدخل الاقتصادي والاجتماعي، مما يجعل مثلاً  باحثين يتحدثون عن غياب الهوية الاقتصادية للدستور المصري لعام 2012، وهي ملاحظة لا شك أنها تنسحب، نسبياً، كذلك على دستور عام 2014، على الرغم من أن لجنة صياغته حرصت على نوعٍ من التنقيح "الإيديولوجي" لدستور 2012، والذي ظل يحتفظ، على مستوى المعجم، ببعض بقايا الفلسفة "الاشتراكية" لدستور 1971، في تأكيد مواد فيه على فكرة التخطيط، مثلاً، وهي مواد أُعيدت كتابتها في الدستور المصري الجديد.
يعود الأمر، في نهايته، إلى طبيعة موازين القوى التي حكمت عملية صياغة هذه الدساتير، خصوصاً في علاقة القوى السياسية داخل مشهد ما بعد الثورة، مع فكرة العدالة الاجتماعية وطبيعة تفضيلاتها الإيديولوجية، وكذا إلى أولوية مسألتي الهوية ونظام الحكم، على سؤال طبيعة النظام الاجتماعي والاقتصادي المأمول. حيث أن باحثين عديدين انتبهوا إلى أن السياق العام، أسهم، مثلاً، في الحالة المصرية، في إنتاج دساتير محكومة بتوافقات سياسية تكتيكية بعيدة عن منطق التعاقد الاجتماعي البعيد المدى.
 
2243D0A1-6764-45AF-AEDC-DC5368AE3155
حسن طارق

كاتب وباحث مغربي