يحيى حقي .. الرجل البديع

يحيى حقي .. الرجل البديع

16 ديسمبر 2021
+ الخط -

يأسرني هذا الرجل البديع من دون خيلاء، والواضح بلا مكر ولا حيلة ولا حسابات، والمحب لضيفه ببساطة العطاء.

مواقف تقول الرجل بلا لافتة ولا صراخ، مواقفه ورؤيته ووجهة نظره، سواء في الحياة أو الكتابة أو الجوائز الأدبية ومصادرها، وخفايا المصدر وغرضه، أو في عمله الإداري.

يحيى حقي نسيج وحدة، قماشة كريمة من أجود قماشات النسيج المصري المتعدّد، والمتداخل بلا استعلاء ولا هالة ولا سطوة حضور. تأسرني في هذا الرجل مزايا لم أرها في أحدٍ سواه في مجتمع الأدب، بساطة شيخٍ بلا تلامذة سوى حسن الخلق والبصيرة والأخذ بيد العون بحياءٍ وصمت، شيخ طريقة تعفّف على أضواء أصحاب الطرق، وظل هادئاً كما هو، من دون أن يتعكّر مزاجه بصعود الدرجات أو نهم التحقق والوجود على حساب إنسانيته الهادئة البسيطة بعيداً عن أي زحام.

هالاتٌ من نور عديدة تركها يحيى حقي بعد ذكرى رحيله التاسعة والعشرين، نحاول في إيجاز تتبع شذراتها في ست نقاط على عجالة:

1- رأيه في الكتابة: "كل شاةٍ من رجلها معلقة"... حينما قرأت له تلك المقولة وأنا أعدّ عنه استطلاعاً لصحيفة "الثقافة الجديدة" بعد رحيله بأيام، أدركت أنني يجب أن أعلّق مصير ذاتي، الكاتبة بنفسي فقط، هكذا من رجلي أو من "عرقوبي"، كما نقول في قرانا. كم كنت سعيداً بتلك المقولة في حينها وإلى الآن، وأدركت أنّ الكتابة هي شبه خصام وألم مع العالم، وفرح بألمك وحدك، ولا يضاف إلى باقي الألم، قطيعة مع آلام العالم، وفرح خاص بألمك وحدك.

2- حينما تدارسوا أمره بعرض جائزة صدّام حسين عليه، من خلال "ترحيلة صدّام الثقافية بالقاهرة ودراويشه ودراويش مهرجاناته من الكتّاب المصريين"، يقال إن ردّه كان واضحاً بلا تردّد ولا لبس ولا مواربة ولا مواءمة قائلاً: "كيف أقبل جائزة من رجل يده ملوثة بدماء أهله؟".

3- أما عن عقيدة يحيى حقّي في الأسلوب، فهي بسيطة من غير بهارج زائفة ولا تشنجات لغوية، خاصمها القاموس وهجرها. ترى العامية التي "بروح فصيحة" مبثوثة كاللؤلؤ في معمار جملته النثرية، عامية بقلب فصيح خرجت توّاً من قلوب الناس بلا كلفةٍ في الحديث والتخاطب، جملة لم يغلبها السبك، ولا أفسدتها الصنعة ولا قصد البلاغة، جملة ساقها سلاسة المعنى، وكأنّها جملة زارع مودة فصيح يقول للمكير: ارمِ بذورك في أرض الله و"خليها على الله".

4- كان يعمل رئيساً لمصلحة الفنون والآداب، وهو الهيّن اللين الوديع، وتأتيه المشكلات الإدارية مخلوطة بشكوى الجهاز الإداري من سلوكيات الفنانات والفنانين وعصبيتهم في الأجور، و"برستيجهم" في السفر والحجز، خصوصاً في سفر فرق الفنون الشعبية إلى الخارج لتمثيل الدولة، وغيرة الفنانات من بعضهن في حجز مقعد في طائرة أو زي أجمل أو غرفة في فندق مواجهة للبحر. وغالباً يكون معظم الجهاز الإداري من الناس العاديين في المجتمع المصري أو حتى من أولاد الأصول فقراء الحال، كانت معظم الشكاوى تأتي إليه من ذلك الباب، فكان الرجل الوديع يهدئ من تشنجاتهم باسماً وقائلاً: "خلّوا بالكم أحنا بنشتغل مع غوازي".

5- كان يحيى الطاهر عبد الله معروفاً بنزقه الجميل، خصوصاً مع الأدباء كبار السن الذين حققوا طفرة من شهرة عريضة قبل وصوله إلى القاهرة، حتى وإن سبقوه في العمر بسنوات، كما حدث له مع نجيب محفوظ، فما بالك بيحيى حقّي الوديع. كانت أيام مولد النبي، وحلّ يحيى الطاهر عبد الله ضيفاً على يحيى حقي، حتى انتهت الجلسة بسلام ومودّة. وفي الخروج، أصرّ الوديع يحيى حقي أن يشتري لبيته حلاوة المولد واشترى ليحيى مثله، رجل وديع غلب يحيى الطاهر العنيد بالمودة في بيته بذكاء قلبه.

6- يحيي حقي ابن السيدة زينب وصاحب "قنديل أم هاشم"، ونجيب محفوظ ابن "سيدنا الحسين". الاثنان أبناء طبقة متوسّطة، ليحيي حقي أصول تركية، ونجيب ابن طبقة موظفي الدولة، والاثنان في غاية الأدب والتحقّق في عملهما وإنتاجهما الأدبي، إلّا أنّ هناك شيئاً يبرز، يأتي خطابٌ إلى مصلحة الفنون والآداب من مدرسة إحدى بنات نجيب محفوظ لاستدعاء ولي الأمر، يتعجّب يحيي حقي من أمر الخطاب، فهو لا يعرف أنّ لنجيب أيّ تجربة في الزواج أو الخطوبة فما بالك بابنة في رابعة ابتدائي، ولها مشكلات طفولية مع إدارة المدرسة. ويحيى حقي لسنوات يركب في السيارة عائداً إلى بيته بجوار نجيب محفوظ، ولا سمع منه أبداً أنّه خطب أو تزوّج أبداً أو له بنات. يحتار يحيى في الأمر، وفي النهاية، يتحدّث بمودة مع نجيب في الأمر، كي يحلّ المشكلة.

رحم الله مودّة الكبار وتسامحهم ، حتى وإن تعجّبوا لأمر ما، عارض.

720CD981-79E7-4B4F-BF12-57B05DEFBBB6
عبد الحكيم حيدر

كاتب وروائي مصري