نُظُمٌ عربيةٌ تطبّع والشعوب ترفض

نُظُمٌ عربيةٌ تطبّع والشعوب ترفض

22 أكتوبر 2023

لافتة ضد التطبيع مع إسرائيل في مسيرة مغاربة في الرباط تناصر غزّة (15/10/2023/الأناضول)

+ الخط -

تبقى رمزيّةُ مشهد النَبْذ الشعبيّ لمراسلين إسرائيليين في أثناء مونديال قطر من أبلغ رمزيّات رفض الشعوب العربيّة والإسلاميّة، من المحيط إلى الخليج، التطبيع مع الكيان الصهيونيّ الإحلاليّ المحتلّ، الذي تتسابق نظم حاكمة إلى تنفيذه إرضاءً للسيّد الأميركيّ، فأصحاب القرار في وادٍ وشعوب الدول في وادٍ آخر. تجربتا مصر والأردن على أرض الواقع خير برهان، إذ لم تتعدّيا نطاق الأوهام (والخيبات) لـ"سلام" مزعوم لم يفلح في انتزاع قضيّة فلسطين ومحوها من الوجدان الشعبي في هاتين الدولتين "الرائدتين"، من النظامين فيهما، في إثم التطبيع.

كانت البداية مع خطوة أنور السادات الرعناء، النزقة، المنقادة للسيّد الأميركيّ وبدفع منه وحضّ وتشجيع. ولا حاجة للعودة إلى التفاصيل التاريخية لاتفاقية كامب ديفيد المشؤومة، فالتركيز هنا هو على تعامل الشعب المصريّ، مذّاك، مع مسألتي "السلام والتطبيع مع الكيان المحتلّ. ففي دراسة للباحث أمير مخول تحت عنوان "لغز الموقف المصري من التطبيع وحيرة إسرائيل"، نقرأ كلاماً واقعيّاً معبّراً: "إنّ العداوة متجذّرة في الوعي الشعبيّ لإسرائيل، بسبب قضية فلسطين، وهو وعي له بُعده الأوسع القوميّ العربيّ، وبالذات الناصريّ المتوارث في هذا الصدد، وله البُعد الإسلاميّ الإخوانيّ المتجذّر والذي اتسع نطاقه منذ الثمانينيّات (...)".

تشكّل الحالة المصرية لغزاً صعب التفكيك من مراكز الأبحاث الإسرائيلية المعنيّة بالأمن القومي، ولم تنشغل هذه المراكز، والاستخباراتية أيضا، ببلد عربي كما بمصر، وفي ذلك ريبة وتحدٍّ ومخططات لمحاصرتها. وتعود حبكة اللغز إلى استعصاء الحالة المصرية الرسمية والشعبية على التطبيع، وعلى فهم المنطق من وراء هذا الاستعصاء. ما يدعوه مخوّل لغزاً لا لغز فيه، إلّا من الزاوية الإسرائيلية، فالوجدان الشعبيّ المصريّ لن يتبدّل ولو بعد ألف سنة، لأنّه وطنيّ عربيّ ينطوي على إيمان قاطع وراسخ بالقضية الفلسطينية وبحتميّة تحرير أرض فلسطين ومقدّساتها من رجس الاحتلال، فالشعب المصريّ يعدّ الكيان الصهيونيّ، في قرارته وعمق وجدانه، كياناً مؤقّتاً وإلى زوال. وفي مصر، فضلاً عن الرفض الشعبيّ العارم (مع شواذات محدودة) للتطبيع العمليّ والتعايش مع فكرة "إسرائيل"، نضالٌ فكريّ وثقافيّ موصول ومستقرّ، حتى بات تقليداً يُعبّر عنه في الندوات والمحاضرات والكتب والمقالات وحلقات التثقيف التاريخية والجغرافية، فضلاً عن خوض المعارك لصدّ المحاولات الإسرائيلية للتطبيع الثقافي والأدبيّ مع مصر. وعي المثقفين المصريين كبير في هذا الجانب.

عبثاً يسعى الكيان العنصريّ المتوحّش في استرضاء الشعوب العربية وإخضاعها

قال إلياهو بن أليسار، أوّل سفير إسرائيلي في مصر، للفريق الدبلوماسيّ المرافق له: "عليكم أن تأخذوا في الحسبان أنّ ثمّة رجلاً واحداً في مصر هو معنا (يقصد السادات)، أمّا الآخرون فهم ضدّنا، حتى هؤلاء الجنود الذين يتولّون حراسة السفارة قد يستخدمون بنادقهم ضدّنا في وقت من الأوقات". وهذا كلام يعبّر، في باطن الوعي الصهيوني، عن الضمير الجمعيّ العربيّ الرافض مطلقاً لهذا الكيان، فالمواطن العربيّ، أيّاً كان وأينما كان، ورغم كلّ عوامل الترهيب والفَرْض التي يتعرّض لها يومياً، يتمتّع بمناعة عفوية ضد الحركة الصهيونية التي تستهدف وجوده الإنسانيّ الحضاريّ والثقافيّ والدينيّ والاقتصاديّ، وما يقيّد النظم والحكومات ليس محتوماً أن يقبل به الشعب.

واقع مماثل نراه في الأردن العزيز، مثل مصر العزيزة، حيث لم تلقَ اتفاقية وادي عربة، منذ توقيعها قبل نحو ثلاثة عقود، ترحيباً شعبياً، ويدخل السيّاح الإسرائيليون إلى الأردن ويخرجون مثل اللصوص، متخفّين، أو تحت حماية أمنية، من فرط الكراهية التي يُضمرها الشعب الأردني. تُقارب حصيلة العقود الثلاثة الصفر على المستوى الشعبيّ في هذا البلد. وعلى الرغم من أنّ معاهدة السلام بين الأردن والمدعوّة "إسرائيل" تجاوزت التقلّبات التي عصفت بالمنطقة منذ توقيعها، إلّا أنّ العلاقة لا يمكن وصفها بالدافئة، فالأردنيون على المستويات كافة ينظرون إلى الكيان الصهيونيّ ككيان خطير وتوسّعي.

الوجدان الشعبيّ العربيّ ثابت وراسخ بشأن القضية الفلسطينية وأرض فلسطين التاريخيّة ومقدّساتها

وتخلص ورقة علميّة قدّمها الأكاديمي وليد عبد الحيّ حديثاً، ونشرها موقع "أخبار الأردن"، إلى "أنّ التطبيع لم يقدم أيّ مؤشرات إيجابية للدول العربية التي انتهجته"، و"أنّ الفجوة بين المجتمع والحاكم في الدول العربية اتسعت بسبب المعارضة الشعبية للتطبيع، ما زاد من احتمالات المزيد من نتائجه السلبية، وهذا ما يُستدلُ عليه من عشرات الاستطلاعات الغربية والعربية للرأي العام العربي"، معتبراً كذلك أنّ التطبيع فتح المجال لقياداتٍ عربية للظهور الواسع وحضور المنتديات الفكرية العالمية، وللتخلّص من أحاسيس الدونيّة العميقة لدى بعض الزعماء الذين تعمّقت لديهم عقدة الإنكار في مواجهة رفض شعوبهم قرارات التطبيع.

طالما أنّ الوجدان الشعبيّ العربيّ ثابت وراسخ بشأن القضية الفلسطينية وأرض فلسطين التاريخيّة ومقدّساتها، فسيبقى دوماً وأبداً جداراً منيعاً تتحطّم عنده الأوهام الصهيونية. وعبثاً يسعى الكيان العنصريّ المتوحّش في استرضاء الشعوب العربية وإخضاعها. قد ينجح في التطبيع مع نظم لا يتأخّر في طعنها والتآمر ضدّها والانقلاب عليها والاستيلاء بالحيلة والخداع على خيرات البلدان التي تحكمها بحدّ السيف... بيد أنّه لن يفلح في ذلك كلّه مع الشعوب العربية والإسلاميّة. عبثاً يسعى. هو يلطم برأسه جدار الاستحالة.