عن أرون بوشنل وبلاغة الفعل الاحتجاجي

عن أرون بوشنل وبلاغة الفعل الاحتجاجي

10 مارس 2024
+ الخط -

تجاوز أرون بوشنل مشاعر جميع المتعاطفين مع مأساة أهل غزّة بفعله الاحتجاجيّ الاستشهاديّ بليغ الرمز والنبل الإنسانيّ، ولم يسبقه أحدٌ إلى مثل هذا الفعل سوى الشاب التونسيّ محمد البوعزيزي، مطلقاً مع اصطلح عليها "ثورات الربيع العربي"، وكانت تونس شرارتها الأولى. ولكن البوعزيزي الذي أضرم النار في نفسه في 17 ديسمبر̸ كانون الأول من عام 2010، إنّما فعل احتجاجاً على مصادرة السلطات البلدية في سيدي بوزيد عربةً كان يبيع عليها الخضار والفواكه، فكان فعله اجتماعياً ضدّ الظلم اللاحق به وبأمثاله من فقراء تونس وكادحيها لكسب القوت اليوميّ. فِعْلُهُ الاحتجاجيّ محليّ ووطنيّ بامتياز، عظيمٌ ومقدّر، بيد أنّ احتجاجاً مماثلاً يغدو عظيم التقدير أيضاً إذا كان من أجل قضيةٍ بعيدة جغرافياً، قريبة إنسانياً، هي قضية الإبادة المرعبة الحاصلة في غزّة، التي أضرم الطيار الأميركي الشاب بوشنل النار في نفسه رفضاً لاستمرارها ولمشاركته فيها عسكرياً يتلقى الأوامر. لدينا هنا تضحية بالذات في سبيل حرية شعب وأرض في الطرف البعيد من الأرض، ما وراء المحيطات، فالفضل، بالتالي، كبير لإنسانٍ لا يربطه بالشعب الفلسطيني إلّا الرابط الإنسانيّ العام، ومع ذلك أثار بوشنل دهشتنا ودهشة العالم بعمله البطوليّ الصادم.

كثرٌ الذين لا يملكون شجاعة كهذه، سواء كانوا متألّمين صادقين إزاء ما يحصل، أو ديماغوجيين غلاظ القلب والإحساس لا تحرّكهم في هذه الدنيا سوى أنانيتهم ورفاههم وتخمتهم ورغد عيشهم، ولا يأنفون من إظهار أنهم غير معنيين بمأساة أهل غزّة على طريقة "ما لنا وما لهم"، أو "فليتحمّلوا مسؤولية أفعالهم وخياراتهم"، أو في أفضل الحالات "هذه حربهم وليست حربنا"، إلى ما هناك من ضروب التملّص واللامبالاة، فقط ليعفوا أنفسهم، شعوباً وحكّاماً، من واجب التضامن الإنسانيّ، الأخلاقيّ، العربيّ، الدينيّ... فلنسمّه ما شئنا، وهم فعلاً غيرُ معنييّن على الإطلاق، كأنهم موجودون على كوكبٍ آخر، وفي منطقةٍ غير المنطقة العربية ومقدّساتها وتشابك أزماتها ومصيرها المشترك.

لا أحد تمكّن من تفكيك لغز الهوان والصمت العربيين، وخمول الشارع العربيّ والإسلامي الذي لم يشهد تظاهرات ضخمة كالتي شاهدناها في العواصم الغربية، فمَن الأَوْلى والحال هذه بالتحرك؟ هل يُعقل أن تتحرّك ضمائر شعوب الغرب وتظلّ الشعوب العربية والإسلامية في حال من السكون المريب، وهي القادرة على زلزلة الأرض من تحت أقدام الملايين الهادرة؟ أين الشعوب، المصريّ، والسوريّ، والعراقيّ، والمغربيّ، والجزائريّ، والتونسيّ؟ وأين عشرات الملايين في ديار المسلمين من باكستان إلى إندونيسيا؟ أليست قضية فلسطين إسلامية، فضلاً عن أنها مسيحية تاريخية وإنسانيّة عامةً؟ أحجية لا يستطيع أحد حلّها بعد مضيّ خمسة أشهر ونيّف على اندلاع المأساة.

أشعرَنا بوشنل بفعله الاحتجاجيّ البطوليّ لحظة اشتعال جسده وموته أنّنا مقصّرون جدّا

أميركياً، ليس شأناً بسيطاً أن يستأثر فعل بوشنل الصادم للشعب الأميركيّ، أيّاً تكن توجّهات فئاته، خاصة المتصهينة و"المتأسرلة" منها، بالتغطية الإعلامية الواسعة، وإنْ طَرَحَ بعضها شكوكاً خبيثة عن صحّة الشاب العقلية التي ثبت لاحقاً أنّه سليم العقل والضمير، ويملك إيماناً عميقاً وشعوراً إنسانيّاً مستمدّاً من تربية عائلية تدين بالقيم الدينية السامية. أدرك الرأي العام الأميركي الدافع الحقيقي خلف فعل بوشنل الاحتجاجيّ العظيم، والأهمّ أنّه أسهم في إعادة التذكير بالحقّ الفلسطيني المنسيّ في ظلّ الهيمنة السياسية والإعلامية الصهيونية. إنجاز كبير أن تحيا فلسطين مجدّداً وتحضر في وعي الأميركيين.

على المستوى الفرديّ، والشخصيّ، قد يكون من الجائز لي التعبير باسمي وباسم كثر (قرأتُ ما كتبوا) عن خجلي وخجلهم حيال إقدام الشاب الأميركي بوشنل، فاحتجاجه كان بطولة وشهادة، في حين أنّ احتجاجنا لم يتعدَّ حتى الساعة الاحتجاج اللفظيّ، الكلاميّ، التعبيريّ المليء بالتوصيف الوجداني، حتى البليغ منه نثراً أو شعراً. ولكن ما قيمة الكتابة بالكلمات أمام الكتابة بالجسد المتألم؟ من غير الضروريّ أن يكون الفعل الحقيقيّ إضراماً للجسد بالنار، ولا إطلاق رصاصة في الرأس مثلما فعل الشاعر الكبير الراحل خليل حاوي احتجاجاً على الغزو الإسرائيلي لبيروت عام 1982، فلم يتحمّل رؤية جيش العدوّ في عاصمة بلد عربيّ. أشكال الاحتجاج كثيرة، منها الاعتصام في الساحات والشوارع، والإضراب عن الطعام، والتظاهر عالي الصوت والنبرة أمام سفارات إسرائيلية (حيث وجدت في دولنا المقيمة سلاماً مع الكيان أو تلك المطبّعة بالسرّ أو بالعلن)، وأمام سفارات دول غربية مشاركة في إبادة شعب غزّة واغتيال شبّان الضفة. بلى، يسعنا، مواطنين عرباً معنيين بالصراع ومآلاته المصيرية، أن نحتجّ بطرائق عديدة أكثر تأثيراً من مجرّد تسجيل مواقف كلامية أو إنشائية، وإن يكن في هذه بعض الخير القليل لا الكثير المؤثّر والفاعل.

غَلَبَنا أريون بوشنل جميعاً، أخجلنا، أشعرَنا بفعله الاحتجاجيّ البطوليّ الصارخ لحظة اشتعال جسده وموته أنّنا مقصّرون جداً، حتى عند الدرجة صفر من إنسانيتنا. أمسى بوشنل الأيقونة التي ننحني لها تقديراً وإجلالاً. عيبٌ على أمّتنا أن يلفّها هذا الصمت العميم.