نزهة موسكو أم مستنقع كييف؟

نزهة موسكو أم مستنقع كييف؟

29 سبتمبر 2022
+ الخط -

التطورات المتسارعة الآتية من شرق أوكرانيا وجنوبها، وما حملته من تقدّم واختراق نوعي للقوات الأوكرانية في استردادها مساحة قُدّرت بـأكثر من 4000 كم مربع، وتحرير 20 بلدة وثلاث مناطق استراتيجية في محيط مدينة خاركيف (كوبيانسك – بالاكليا - إيزيوم) شكّلت عامل صدمة لدى بعضهم، وتركت إشارات استفهام بشأن كيفيّة حدوث مثل هذا الاختراق؟ في مناطق أضحت منذ أشهر تحت سيطرة روسيا، جعلت منها مراكز لوجستية ونقاط انطلاق وإمداد نحو العمقين، الشرقي والجنوبي، الأوكرانيين، إلى درجة أنّ موسكو جعلت من منطقة إيزيوم الاستراتيجية خطًّ إمداد متواصل إلى مدينة خيرسون ومنها إلى شبه جزيرة القرم. حتى ما قبل التغيّر التكتيكي الحالي من أوكرانيا، كانت روسيا تسير في نهج "خطوة بخطوة" في قضم الأراضي الأوكرانية وإنهاء كل الجيوب في أقاليم دونيتسك ولوغانسك وخيرسون تمهيدًا لإعلانها أقاليم تابعة لها (بمعنى أدقّ ضمّها إلى الأراضي الروسية) والانتقال بعد ذلك إلى خيارات أوسع كتكريس سيناريو تقسيم أوكرانيا بين شرقها وغربها، أو عودتها لمحاصرة العاصمة كييف، والعودة إلى سيناريو الحملة العسكرية الأولى في فرض الاستسلام على حكومة كييف، ونزع سلاحها وإجبارها على كامل شروطها في مسار المباحثات.

أصبح ذلك كله الآن في محل تشكيك، وقد يتلاشى لاحقاً، إذا ما ثَبُتَ أن حملة بوتين ونزهته الخاطفة التي أطلقها في أوكرانيا عشية 24 فبراير/ شباط الماضي قد تحوّلت لمستنقع، لا أحد يعلم مداه ومستقرّه؟ فما أنجزته القوات الروسية في ستة أشهر، بفاتورة باهظة الثمن، استردّت نصفه أوكرانيا بأقل من نصف شهر، واستطاعت مسك زمام المبادرة ميدانياً، بشكل جعل القوات الروسية تهرب من مواقعها بدون عتاد وسلاح. وعلى الرغم من تواتر فيديوهات كثيرة عبر وسائل الإعلام تُظهر الدبابات الروسية المميزة بحرف "z"، غير أنّ وزارة الدفاع الروسية نفت ذلك، وادّعت أنّ القوات الروسية تقوم بإعادة تموضع، كما نفت موسكو كل التصريحات الأوكرانية في دحض أي تقدّم في محيط خاركيف، وكذبت سقوط إيزيوم، في محاولة لمنع انهيار معنويات الجنود الروس، وتغييبهم عن الحقيقة، تماماً كما فعلت في سورية بتزويرها الحقائق في ملفات "الكيماوي والخوذ البيضاء".

ما يهم الآن محاولة الإجابة عن كيفية حدوث الاختراق الأوكراني الحالي، وإن كان مؤقتا، سيلحظ المُتَتبّع لمسار الحرب الأوكرانية أن ما جرى هو فعلاً اختراق نوعي، ونكسة أخرى وُجّهت لبوتين في مسار نزهته في أوكرانيا! فهذا التطوّر كان له مقدّمات وتحضيرات، بدأت تظهر إلى العلن منذ ذكرى "عيد الاستقلال" لأوكرانيا، في 24 أغسطس/ آب الماضي. وقتئذ ألقى الرئيس الأوكراني، فلوديمير زيلينسكي، خطاباً أمام شعبه، ووعدهم بمواصلة الحرب حتى النهاية، وتحرير كل الأراضي التي استولت عليها روسيا، بما فيها شبه جزيرة القرم.

من المؤكّد هنا أنّ تصريحات الرئيس الأوكراني ومواقفه ليست جديدة، استنادًا على سلوكه الواضح منذ بدء العدوان الروسي، لكن خطابه تزامن مع بدء قوات خاصة أوكرانية شن هجوم مضادّ على خيرسون، إلى جانب إعلان الولايات المتحدة زيادة الدعم العسكري بقيمة ثلاثة مليارات دولار. وفي مطلع شهر سبتمبر/ أيلول الحالي، وعد زيلينسكي شعبه بأخبار سارّة ستأتي من أرض الميدان، جاء ذلك عقب لقائه وزير الخارجية الأميركي، أنتوني بلينكن، خلال زيارةٍ أجراها إلى كييف. بالإضافة إلى تزويد ألمانيا كييف بأسلحة نوعية لم يتم الحديث عنها أو كشفها في وسائل الإعلام. وفي خضم تركيز الجهود الأوكرانية على جبهات خيرسون في الجنوب، مع زخم الحراك والدعم الغربي لكييف، بدا أن روسيا، للوهلة الأولى، قرأت الخطوة المقبلة من حكومة كييف، فركّزت اهتمامها على خيرسون، حتى أنها أعلنت عن إرسال قوات تمّ سحبها من جبهات الشمال والشمال الشرقي لمنع تقدّم القوات الأوكرانية في خيرسون.

ما أنجزته القوات الروسية في ستة أشهر، بفاتورة باهظة الثمن، استردّت نصفه أوكرانيا بأقل من نصف شهر

لكن المفاجأة كانت أنّ أوكرانيا، ومن خلفها الولايات المتحدة، أوقعت بوتين في فخٍ آخر، فبينما كانت روسيا تركز على محور عمليات خيرسون، شنّت القوات الأوكرانية المنتشرة على طول نهر الدنيبر ووسطه هجوماً مباغتاً في الشمال الشرقي باتجاه خاركيف، واستطاعت السيطرة على المراكز الإدارية التابعة لها بما فيها "كوبيانسك – إيزيوم"، وبشكل سريع انهارت الخطوط الخلفية للقوات الروسية، لسببين: الأول جزء منها ذهب لجبهة خيرسون في الجنوب، والثاني عدم توقّعها وعلمها بالهجوم. .. وهذا بحد ذاته يحتاج للوقوف عنده في أوقات أخرى لإثبات مدى قدرة حرب المعلومات والمعلومات المضادّة، والتقارير الاستخبارية التي يبدو أنها سبّبت حرجاً آخر للرئيس الروسي في الاستناد عليها، ومن ثمًّ تقييمه العمليات العسكرية، والتي نتج عنها للمرّة الثانية سوء تقدير استراتيجي، على غرار ما حصل في معارك العاصمة كييف واضطراره إلى إجراء سحب كامل قواته.

اللافت حاليا وجود حقائق باتت واضحة في تقهقر القوات الروسية في جبهة خاركيف، وفي حال استطاعت القوات الأوكرانية الحفاظ عليها، ومنع روسيا من احتلالها مجدّداً، ستكون كل أهداف بوتين العسكرية في إقليم دونباس مهدّدة بالزوال، فالمناطق المستردّة من الجيش الأوكراني هي عقد مواصلات وطرق وسكك حديدية نحو الشرق الأوكراني. بالتالي، إذا ما استمر الزخم العكسي والمضادّ على القوات الروسية، فسيتم التقدّم نحو العمق الشرقي باتجاه دونباس، وفي الوقت نفسه، سيتم قطع كل طرق الإمداد عن القوات الروسية بين الجبهتين، الشرقية والجنوبية، في خيرسون وميكولايف، وستصبح الصورة معكوسة في حصار القوات الروسية بدلاً من الأوكرانية. حينها ربما سيفقد بوتين صوابه، ويبدأ تنفيذ تهديده باستخدام السلاح النووي التكتيكي بهدف إعادة مسكه زمام المبادرة التي بدأ يفقدها. وعند هذا المطاف، ستدخل الحرب الأوكرانية فصلاً آخر من الصراع قد لا يُحمد عقباه.

يعدّ بنك المعلومات الاستخباراتي الغربي المقدّم لحكومة كييف ورقة ذهبية في يد كييف، أزعجت وسبّبت ألماً كبيراً لبوتين

النقطة الثانية، ويدور حولها البحث عند مراقبين كثيرين، عن الأسباب التي استطاعت من ورائها القوات الأوكرانية تحقيق هذا التقدّم. يعود واقع الأمر إلى وجود نقاط استطاعت من خلالها أوكرانيا تغيير المعادلة العسكرية مؤقتاً على أقل تقدير. استطاع الجيش الأوكراني التكيّف مع السلاح الغربي بمدة تُعد جيّدة، بعد تدريبه في معسكرات شهورا من خبراء وضباط غربيين، كما قادت معرفته بالطبيعة الجغرافية على تحديد مواقع الضعف الروسي، بهدف شن هجوم مضادّ على القوات الروسية، فالتركيز على خيرسون ساعد في تشتيت الجهود الروسية، وإبراز مكامن ضعف قواتها في جبهات خاركيف. بالإضافة إلى ذلك، يعدّ بنك المعلومات الاستخباراتي الغربي المقدّم لحكومة كييف ورقة ذهبية في يد كييف، أزعجت وسبّبت ألماً كبيراً لبوتين، ذلك من خلال حرب الكمائن التي أفضت إلى إحداث فارق بميزان المهارات القتالية والمعنوية. أسهمت أيضاً الاختراقات الأمنية وتسريب المعلومات والمعلومات المضادّة في إعطاء حكومة كييف دافعاً إضافياً لإحداث اختراق نوعي تكتيكي مؤقت. وعلى ما يبدو، فإنّ روسيا لم تحل معضلة تأمين الإمدادات اللوجستية لقواتها البرّية، ما دفع الطرف الآخر إلى استهداف الخطوط الخلفية وقطع طرق التواصل مع مجاميع روسية قرّر بعضها ترك مواقعه وتنفيذ انسحابات، وليس إعادة تموّضع، كما ادّعت التصريحات الروسية.

ختاماً: من المبكر التكهن عن كيفية الرد الروسي، روسيا تحتاج إعادة تقييم شامل لكامل عملياتها الميدانية، كونها تعرّضت لهزّات متتالية، منذ انسحاب قواتها من محيط العاصمة كييف، وصولاً إلى استهداف الطراد الروسي موسكوفا، وهروب قواتها من خاركيف، لكن ما هو واضح أن الحرب الروسية في أوكرانيا لم تعد مجرّد نزهة أو عملية سريعة وخاطفة، بل تحوّلت إلى حرب استنزاف طويلة الأمد، تطمح الولايات المتحدة إلى وضع نهاية لها لحظة تأكّدها من خسارة الجميع، وإبقائهم تحت فلكها الأحادي في قيادة العالم.