هذا التكتيك الجديد لبوتين في أوكرانيا

هذا التكتيك الجديد لبوتين في أوكرانيا

15 ديسمبر 2022
+ الخط -

منذ اعتماد روسيا قرار انسحاب قواتها من الضفة الجنوبية لنهر الدنيبر، والغموض متواصل عن خطوة الرئيس بوتين المقبلة، فالحرب التي دخلت في شهرها العاشر في أوكرانيا مرّت بعدة منعطفات، وأكثر من مرّة تم نزع فتيل حرب عالمية ثالثة، بعد حشر موسكو في الزاوية وتوجيه نكسات متوالية لها في أكثر من مكان، كان أشدّها تفجير جسر القرم، وتحجيم قدراتها البحرية في أسطول سيفاستبول، وصولاً إلى قطع طرق الإمداد في خيرسون، وانكشاف ثغرات الضعف في مركز عمليات القرم، وسوء تصرّف ضباطها وفسادهم، ونسف فعالية السلاح الروسي، والاختراقات الكبيرة التي وصلت لأعلى الرتب العسكرية داخل صفوف قواتها. لم يقتصر الأمر على خسارة الميدان، فهي جزء بسيط مما يعانيه صناع القرار في موسكو، من ترهل الاقتصاد وانحساره، وفشل جزئي في صناعة الأحلاف الدولية ضد الولايات المتحدة وحلف الناتو، حتى الصين التي كان يعول عليها بوتين دخلت اليوم في طور أزمات داخلية ومظاهرات على غرار على ما يحدث في إيران من فوضى داخلية مستمرة منذ ثلاثة شهور.

الحدث الأهم هو تغيير بوتين تكتيك الحرب في أوكرانيا، فبعد شهور من مسك المساحات الجغرافية وتحقيق تقدمات ميدانية، بدأ اليوم يعتمد أسلوب الإخلاء وتوجيه ضرباتٍ عن بعد يستهدف من خلالها البنية التحتية والكهربائية والمواصلات في أوكرانيا والطاقة، وهو تكتيك مشابه لما فعله في سورية، مع فارق الخصوصية في الطبيعة الجغرافية والمناخ. لم يكن تنفيذ انسحاب القوات من خيرسون قراراً اعتباطياً، فقد جاء مبنياً على رغبة روسية في اختبار نيّات حلف الناتو بشأن إحياء المفاوضات من عدمه، استناداً إلى رسائل غربية وتلميحات ظهرت خلال الشهريين الماضيين، تناولتها صحف غربية بعد موجة سجال كبيرة. وذلك كله، ولأهداف كثيرة متعلّقة في تقييم بوتين للعمليات على الأرض، إلى جانب تأنّيه في ردود أفعالٍ اختار أن يمنح فرصة لمسار المفاوضات تكون على شروطه في حزمة مطالب يرغب التفاوض عليها مع الولايات المتحدة من دون أوكرانيا، أهمها حسم موضوع ضم الأقاليم الأربعة بالإضافة إلى القرم بشكل نهائي، وما دون ذلك يجري التباحث به مع أوكرانيا في شروط ثانوية تدور حول سلاح أوكرانيا المستقبلي، وموضوع الحياد ومحدّداته، بالإضافة إلى فاتورة الصراع وجرائم الحرب وإعادة الإعمار. هذه هي شروط بوتين التي ختم عليها مجازياً بمصطلح الأراضي الروسية الجديدة في خطابه أخيرا، مشيراً إلى أنها إنجاز مهم في مسار عمليته العسكرية التي وصفها "بالطويلة".

هذه المقدمات والشروط كانت محلّ ترويج وعرض روسي لا يزال مطروحا أمام الغرب، لكن بوتين، في الوقت نفسه، كان يعمل على استراتيجية جديدة تتماشى مع سيناريو الحرب الطويلة، وذلك لوضعه احتمالية أنّ كل مؤشّرات الغرب المعلنة أخيرا بشأن إيجاد حل ومخرج يرضي كل الأطراف قد تكون مراوغة وكسبا للوقت ليس إلّا، وهو ما يعرف بسياسة الإشغال أو تشتيت الجهود بغية إعادة "الناتو" وحدة الصف للقوات الأوكرانية، واستمرار تدريبها لمعركة ما بعد الشتاء، وضمان استمرار وحدة الصف مع الأوروبيين، لاستمرار دعم أوكرانيا، والمضي في سياسة العقوبات والتخلي عن النفط الروسي، والتقدّم في استراتيجيات البدائل النفطية، وشدّ عصب الحلفاء الغربيين في استمرار تقديم المساعدات العسكرية واللوجستية لأوكرانيا، من صواريخ ومنظومات مضادّة. وقد اتضح ذلك كله بعد موجة التصريحات وخطب الود الروسي الأميركي خلال فترة حملة بايدن الانتخابية.

الغرب يعلم جيداً أن بوتين استفاد من الأخطاء التي وقع بها في الأسابيع الأولى للأزمة، وانتقل اليوم إلى إدارة المعركة عن بعد

قرأت موسكو الصورة بعناية، فقرّرت تنفيذ الخطة الجديدة التي جاءت بعد تنفيد انسحاب قواتها من خيرسون، تمحورت في تحويل الشتاء إلى سلاح قاتل، عبر تكثيف استهداف البنية التحيتة ومنشآت الطاقة والكهرباء الأوكرانية، بهدف إضعاف الداخل والحواضن الشعبيىة وتأليبها على حكومة كييف. ولأيام اعتمد بوتين على تنفيذ ضربات مركّزة على منشأت الطاقة، استطاع حرمان خمسة ملايين أوكراني من الكهرباء، وتدمير 83 موقعا للطاقة حسب بيانات وتصريحات لوزارة الدفاع الروسية. وفي الوقت نفسه، استمرّ بوتين بزيادة فعالية الضغط على خيرسون بقصفها من بعيد، لتحقيق أكبر قدر من الضرر ومنع القوات الأوكرانية من تجميع صفوفها وتقدّمها أكثر باتجاه مناطق النفوذ الروسية شرق أوكرانيا. هذا التكتيك الجديد لبوتين يعتقد أنه متناسب مع فصل الشتاء المقبل، فهو أقلّ خسارة من العمليات العسكرية المفتوحة، ولا يحتاج زجّ إلى قوات كبيرة من الجنود، وفي الوقت نفسه، يحقق لموسكو استغلال الوقت لتدريب قوات التعبئة الجدد 300 ألف مقاتل، جرى تجنيدهم بالقوة وزجّهم في مناطق متفرّقة في الميدان، هؤلاء بحاجة لتدريب وقتا طويلا، حتى يكونوا قادرين على جاهزيةٍ لخوض معارك الصيف المقبل.

تبدو أوكرانيا ممتعضة أكثر من أي وقت، بعد استمرار استنزاف مواردها الطاقوية، فبرد الشتاء المقبل يحتاج مقومات صمود شعبية غير عوامل توفير السلاح والتدريب، وإذا ما استمرّت روسيا في استراتيجية تدمير منشآت الطاقة، فقد يفضي ذلك إلى فوران داخلي أوكراني، وهذا ما يُعوّل عليه بوتين في مقبل الأيام، وسيكون ذلك أشدّ ضرراً على أوكرانيا التي تخوض حرباً في داخلها، على عكس روسيا التي لا زالت تحافظ على عدم نقل الحرب إليها، وحصرها في الجغرافية الأوكرانية.

تبدو أوكرانيا ممتعضة أكثر من أي وقت، بعد استمرار استنزاف مواردها الطاقوية، فبرد الشتاء يحتاج مقومات صمود شعبية

لأجل ذلك كله، سارع الغرب، أخيرا، وأقرّ تحديد سقف للنفط الروسي، بعد تماطله أسابيع في ذلك، ظناً منه سابقاً أن التلويح بهذه الورقة قد يردع بوتين ويقوده لتقديم تنازلات، لكن أيّا من ذلك لم يحدث، والغرب يعلم جيداً أن بوتين استفاد من الأخطاء التي وقع بها في الأسابيع الأولى للأزمة، وانتقل اليوم إلى إدارة المعركة عن بعد، عبر صواريخ بعيدة المدى، والتأقلم مع النفس الطويل للحرب، وتقليل الأضرار وإيجاد البدائل، وتعزيز شبكات الأحلاف مع دول منظمة شنغهاي، وإيران في استمرار استجرار المسيرات الحربية وتبادل المعلومات الاستخباراتية والخبرات، بنفس الوقت الحفاظ على سير العلاقات مع الصين خاصة في موضوع توريدها النفط بأسعار مخفضة، وقد بلغت مؤخراً نسبة الصين 67% النسبة التي تستوردها من روسيا. في الوقت نفسه، لدى روسيا وباكستان والهند ودول أخرى ستستمر في توريدها النفط والغاز بعروض خاصة، وهذه كلها، حسب اعتقاد بوتين، عوامل مساعدة في تقليل خسائر اقتصاده ووسيلة التفاف على العقوبات.

لا تزال مفاعيل قرار تحديد سقف النفط الروسي، الصادر عن دول السبع والولايات المتحدة، غائية التأثير على الاقتصاد الروسي، فكل يوم تظهر لدى بوتين وسائل جديدة، يستطيع من خلالها كسب وقت جديد وعوامل مساعدة يلتفّ من خلالها على الآثار الفعلية لحزم العقوبات، أو يؤجّل ظهورها. في الوقت نفسه، يعدّ هذا القرار ورقة مغامرة من دول الاتحاد الأوروبي، فعبر شهور شكل القرار وحدة انقسام بينهم، وحتى بعد إقراره، ولا يعني ذلك غياب حالة الانقسام، فالضغط الأميركي يبدو أنه حالياً على الإرادة السياسية الأوروبية. وفي الوقت نفسه، لا تزال التكهنات مرتفعة بشأن كيفية رد بوتين على هذا القرار، أين ومتى وكيف سيرد؟ ولعل أسهل ورقة يستطيع استخدامها قطع كامل الغاز عن أوروبا وتعطيل العمل باتفاقية تصدير الحبوب، لكن موسكو لم تفصح بعد عن كيفية ردها، ويبدو أنها تتعمد هذا في التعامل مع هذا القرار. ولكن من الواضح أن بوتين بات يتأقلم مع تكتيك الضربات المركّزة للمدن والقطاعات الحيوية في كييف، بشكل يتناسب مع فصل الشتاء، وقد يستمر الوضع على ما هو عليه، تمهيداً لمعارك كبرى في مطلع الربيع أو الصيف المقبل.