من يوقـف صراعَ "الديوك الحمقى" في الساحة الدولية؟

من يوقـف صراعَ "الديوك الحمقى" في الساحة الدولية؟

10 مارس 2023
+ الخط -

(1)

بــعــدَ أن رسـختْ عـهــود نهضــتها خـلال سـنوات الـقـرن التاســع عـشــر، بـدأت أوروبـا مشـوارها الطــويل نحو التدافع المسعور للسيطرة على الموارد الطبيعية فوق ظاهر الأرض وفي باطنها في المناطق البعـيدة. هكذا كانت أفريقيا صيداً مستهدفاً، لكونها أرضاً بكراً تزخر بثروات طبيعية، تحيط بها المطامع من كل جانب، دعك من مطامع العالم الناهض في أوروبا. لم تتوقف رحلات الاستكشاف طوال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر الميلادييـن، وتشــهـد على هــذه الهجــمـة الأوروبية على القارّة، وهذا التسابق، لكسب ثرواتها، تلك الأسماء التي أطلقوها على الأنهــر والجبــال والمـرتفعـــات والبحيــرات والأقاليــم في بعض الأحوال، ولعلّ أشهر اسم هو فيكتوريا، وقد أطلق على أكبر بحيرة في القارّة. ومعـروف عن العصر "الفـيكـتـوري"، الذي سيطرت فيه ملكة بريطانيا القـويـة فيكتوريا على أعنّـة الحكـم، أنه كان كولونيالياً نهضوياً بامتـياز من وجهـة النـظـر البريطانية، ولكنه كان عهـداً من الهيمـنـة والاســتغلال والسـيطرة، وإن ألبـسوه لبـوس التبشـير بالحضـارة والتقـدّم والتنمية.

(2)

كانت نهاية الحرب العالمية الثانية اللحظة التاريخية التي استفتح فيها المجتــمع الدولي مرحلة تاريخيةً اعتمد فيها التعاون بين أعضائه وفق توافق على مبادئ جسّــدها ميثاق هـيئة الأمم المتحدة الذي وقّعه ممثلـو تلك الأمم في عام 1945. تلت ذلــك التوقيع على الإعـــلان العالمي لحقــوق الإنسان في عام 1948 شـــرعة عالميــة تحـتـرم حــق الشــعوب جميعـها في تقــريـر مصائرها وفي حرية إرادتها، كما توافق المجتمع الدولي على هياكل سياسية واقتصادية واجتماعية تنظّم مجمل حراك أعضائه. تلك هي المواثيق التي أفضت بالمجتمع الدولي إلى اللحظة التاريخـيـة الـتي أوقفت ظاهرة الاستعمار، ووضعت نهايةً لعصرٍ امتدّ عشرات العقـود، تدافع خـلاله الأقـــوياء للسيطرة على موارد الضعفاء في أنحاء المعمورة، شرقيها وغربيها وجنوبيها. عند حلول عام 1960، كان أكثر من 16 بلداً أفريقياً قد حصلت شعوبها على الحرية والاستقلال والكرامة.

لا يملك المحلّلون إلا أن يجمعوا على أن العالم ماضٍ إلى حقبة صراعات متجدّدة بسـبب الحرب الأوكرانية

غير أن الحصول على الاستقلال لم يكن بالأمر الميسور، ولم تكن تلك المنعطفات نهــاية عصـر المطامع. كلا، لقد تسربلتْ أطماع الأقوياء بلبوس جديد، وبألوانٍ مخادعة. وهكذا كانت السنوات التي تلت الحرب العالمية الثانية بداية لحقبة أخرى، اســتعرت فـيها حروبٌ ســمّوها حقبة الحـرب الباردة، ولكنها شهدت حروباً ساخنة أيضاً. بدأت بالحرب الكورية، ثمّ تلتها الجزائرية، ثم المواجهة السوفييتية الأميركية حول كوبا، ثم الكونغـو ومن بعدها فيتـنـام وكمبـوديا. هكذا بدأت مسلسلات الحروب التي تبرُد حيناً في مواقع، ثم تسخن في مواقع أخرى.

(3)

وإن هدأتْ بعض تلك الحروب في سنوات النصف الثاني من القرن العشــرين، ونالت أكثر بلدان قارّتي آسيا وأفريقيا استقلالها، وعاد السلم المؤجّل إلى الكوريتين، كما اسـتعادت فيـتـنام وحدة ترابها ونهضت نهوضاً مميّزاً، غير أن أوضاع القارّة السمراء اتجهت إلى مصائر أخرى. في الكونغو جـرتْ قصة لا تزال فصولها تتمدّد بلا نهايات. ... تلك الدولة الأفريقية الغنية بالمعادن الثمينة، خصوصاً اليـورانيـوم، وهـو المعــدن الـذي يســيل له لعاب الأقوياء الضالعين في مباريات ســـباق التسلح أمــام مصــادره. الصـراع الــذي دارت رحاه في الكونغـو أهـدر دم رئيس وزراء البلاد (باتريس لوممبا) الذي اغتيل بليل في ينـاير/ كانون الثاني 1961، وأعلنت وفــاته بعد شهر، ثم تلتْ مقتله حادثة إسقاط طائرة الأمين العام للأمــم المتحــدة المثير للجـدل، داغ همرشولد، وهو المسؤول الأمـمي الأوّل الـذي أهـدرت دمـهُ أيضاً مخابـراتٌ غربية.

أثبـتـت تقـاريـر مخابراتية أن أصول القنبـلة الذرية التي استهدفت هيروشــيما في اليابان في نهــايات الحرب العالمية الثانيــة تعـود إلى يورانيوم الكونغــو

ولـك أن تعلــم أن العقــدة الرئيسـة في قـصّــة مقـتـل لوممبـا وبعده الأمين العام للأمـم المتحــدة في عـامٍ واحـدٍ تتصــل بحقيقـة التسابق الحامي حول المعــادن النفيسـة في بــلاد الكونغــو. وقد أثبـتـت تقـاريـر مخابراتية أن أصول القنبـلة الذرية التي استهدفت هيروشــيما في اليابان في نهــايات الحرب العالمية الثانيــة تعـود إلى يورانيوم الكونغــو.

(4)

نتابع ما يدور في الساحة الدولية، خصوصاً بعد إشعال روسيا الحرب في السّاحة الأوكرانية منذ أكثر من عام، فلا يملك المحلّلون إلا أن يجمعوا على أن العالم ماضٍ إلى حقبة صراعات متجدّدة بسـبب تلك الحـرب. لم يعـد التعاون الدولـي (الـذي استمسكت به بلدان العالم بعد نهاية الحرب العالمية الثانية) قابلاً للتماسك والاستدامة. يكاد المجتمع الدولي، بكامل بلدانه، ينقسم بين مؤيدٍ لتلك الحرب ومعارضٍ لها، فيما تتقاصر الجهـــود الدولية لاحتواء تلـك المهـدّدات التي قد تُفضي حتماً بالعالم إلى حربٍ عالمية، ليستْ باردة هـذه المرّة، ولكنها قابلة على دفع المجتمع البشري بأكمله إلى مصائر تدميرية لا تُبقي ولا تذر. لا نرى من جهود فاعـلة لاحتواء الصراع الطاحن، وهـو ليس بين ديكين أحمـقين، بل هــو هلاكهما معاً وهلاك جمهور المتفرّجين، مـع هذا الديك أو ذاك. لـيس الأمر ملـهـاة، ولكننا، حين نمعن في أدوار الهياكل والآليات الدولية والإقليمية التي ظلَّ العالم بجميع دوله يعـوّل عليها، نُشـفق على حالها وقد تقاصر، وعلى جدواها وقد اضمحلّ، وعلى فعاليتها فقد غابتْ.

(5)

لن يغيب عن أنظار المتابعين مغزى أكثر الحراك الدائر على المستويين، الدولي والإقليمي، خلال الأشهر الأخيـرة. تجري دبلوماسية مكوكية بشأن مجـريات الحـرب الروسـية الأوكرانية. تنعـقـد قـمّـة أفريقية أميركية في واشنطن. تنشط الصين للتواصل مع البـلدان العربية فتعقد قـمّة في الرياض. يتجمّع ممثلو البلدان العشرين في الهـنـد فـلا يصلون إلى قــرار حول الصراع الروسي الأوكراني. تتزايد الاضطرابات في غرب القارّة الأفريقية، وكأنّ ثمّة بيادق تحرّكها أيـدٍ خفية. يتجوّل مبعوثون دوليون (لا أمميـون) في أنحاء القارّة، ويتتبع جولاتهم وزير خارجية موسكو. تتوتّر عـلاقات فرنسا مع الشمال الأفريقي برغم عمقه التاريخي هناك، لكن عين رئيسها لا تغفل عن بلدان غـــرب أفريقـيا ووسطها، وقد عصف بأكثـرهـا جنرالاتٌ اسـتولوا علـى مقاليد حكمها، وفي بعض دولها عدم اســتقرار لا يهـدأ، فيما مغامرات مرتزقة "فاغنـر" الرّوس لا تقف عند حدود السودان وأفريقـيا الوسطى، بل تتمــدّد مــن السودان وتشاد إلى مالي والنيجـر. هنالك مهاجرون أفارقة بالآلاف يلوذون بالقوارب القاتلة من سواحل شمال أفريقيا إلى السواحل الأوروبية، ولكن رئيس تونس المثير للجدل، يهرب من مشكلاته الداخلية إلى افتعال خــلافٍ مع بلدان المهاجرين الأفارقة، فينفتح سؤال الهوية بمكوّنيه، العربي والأفريقي، في الشمال الأفريقي بكلّ توجساته.

(6)

تلك مشاهد لا تسُـر، ولا تفضي إلى اطمئنان. لقد أفضى اغتيال الأرشيدوق فرديناند في النمسا إلى اشــتعال حربٍ عالميةٍ عام 1914، قـضـتْ على أخضـر ويابـسٍ، وغيّرت الأوضاع العالمية، فكانت أولى ضحايا تلك الحرب وأهمها عصـبة الأمـم التي ماتت ســريرياً بعد تلك الحرب. جرى البحث عن بدائل تجمع العالم بعقائد جديدة، لكـن الجهود لم تتيسّر إلا بعد الحرب العالمية الثانية التي اشتعلت بين 1939 و1945، وأفضت، بعـــد أن وضعت أوزارها، إلى ميلاد هيــئة الأمــم المتحدة وكيانات ومنظمات دولية وإقليمية عديدة أخرى.

تُرى، هل نحن واقفون على عتبات تجربة جديدة لتعاون دوليّ، نراه بأعيـنــنا يتهــاوى، مبشّراً باستعادة كولونيالية جديدة، أم أنَّ ثمَّـة مساعي صادقة وجهوداً تبذل من عقلاء في العالم يوقفون صراع "الديوك الحمقى" في الساحة الدولية، فليس الخاسـر الأكبر إلا جمهـور المتفرّجين.