عن الأمم المتحدة: ولكن أخلاق الرّجال تضيق

عن الأمم المتحدة: ولكن أخلاق الرّجال تضيق

12 فبراير 2024
+ الخط -

(1)
حين انبرى الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريس، في مؤتمره الصحافي يوم 8 فبراير/ شباط الجاري، يُحدِّث عـن الحربين اللتين أدمتا الضمير الإنساني، حرب إسرائيل في قطاع غـزّة وحرب روسيا في أوكرانيا، لم يبهتني حديثه وقد سمعته يغفل، عامداً فيما بدا لي، عن ذكر أزمة الحرب الناشبة في السودان والأوضاع الإنسانية المزرية هناك. تابعت ردوده حين استفسرته صحافية نابهة بسؤال مباغت عن الأزمتين في كلٍّ من غزّة وأوكرانيا، لكنها أضافت إليهما بالذكر تداعيات الحرب في السودان، فدهشتُ لأنه تجاهل في ردّه أي إشارة عن السودان. ولنا أن نسأل: كيف تغيب عن ذهن الأمين العام مأساة ملايين السودانيين وقد خرجوا لاجئين خروجاً قسرياً بسبب الحرب المستعرة في بلادهم، ولا يذكرها الأمين العام للمنظمّة الأممية، وتتذكّرها صحافية متابعة للأوضاع الإنسانية في أنحاء العالم. أهي من اهتمامات الصحافيين والإعلاميين أم هي من صميم اهتمامات مسؤولي الأمم المتحدة؟  
غير أني كدتُ أن أجد العذر لغويتريس، لكون الحكومة المُغيّبة في الخرطوم، وعلى رأسها قائد للجيش السوداني صمّم، بجدٍّ وبإصرار على طرد ممثل الأمين العام للأمـم المتحـدة فولكر بيرتيس من السودان. ثمّة من سيفسّر ذلك التجاهل بردّ فعلٍ وضيق من قرار رأس السُّلطة الانقلابية في السودان طرد ممثله فيه، والذي آثر، في سبتمبر/ أيلول الماضي، تقديم استقالته بما قد يعني حرصٍاً منه على ألا تمسّ مصداقية المنظمة الأممية في تعاملها مع دولة مضطربة.

وضعٌ لا ينبغي أن تتجاهله المنظمة الأممية، وفي مواثيقها ما يذكّر بأولويات مهامّها في حفظ الأمن والسّلم الدوليين

(2)
ربما في يوم انعقاد مؤتمر الأمين الصحافي، تداول المنخرطون في وسائل التواصل الاجتماعي تسجيلا بالصّوت والصورة لأوّل موظف أممي من منظمة الأمم المتحدة للطفولة "يونيسف" يتجول وسـط خرائب العاصمة الخرطوم، ويحدث بصوته وآلة تصويره عن المآسي في الشوارع المحطمة والمساكن المنهوبة بصورٍ حية ومؤلمة، وحملت نبرته ما صدمه مـن مشاهد مُرعبة ودمار مطبق في الأنحاء جراء القتال المتواصل منذ إبريل/ نيسان 2023، بما يفوق الخيال. يظلّ الطبيعي أن ترفع الهيئات والوكالات الأممية تقاريرها إلى الأمانة العامة للمنظمة الدولية، لا أن يجرى تعميم متابعات أولئك الموظفين الأمميين ومشاهداتهم رصداً لتلك المآسي الدائرة في مناطق الأزمات، على مواقع التواصل. يتبادر إلى الذّهن على الفور أن ما بثه ذلك الموظف الأممي، وهو في حال من الذهول، صدر منه على عجل، لتأثره من هول ما شاهد من صور.
(3)
 ذلك "الكليب" القصير الذي بثّهُ موظف يونيسف وهو يتجوّل في خرائب الدّمار ومشاهده في السودان، وعلى صدره سترة الوكالة الأممية الزرقاء، يماثل ذهوله، في نظر الكثيرين، ذلك الذهول الذي وثقته القنوات الفضائية من مشاهد كارثية في الحربين في كلٍّ من أوكرانيا وغزّة. الفارق الوحيد أن القتل والدمار في أوكرانيا وغزّة هما نتيجة قتال بين غريمَيْن، ولكن صورة حرب السودان تبدو غاية في الإرباك والتعقيد، إزاء قـتالٍ ينخرط فيه سودانيون مسلحون إلى أسنانهم يقتلون بعضهم بعضا ويدمّرون بلادهم بأيديهم في حربٍ عبثية، تداعت خلالها مقوّمات دولتهم ومؤسّساتها وبُناها التحتية وتاريخها الحاضر وانهارت تماما. الأدهى والأمرّ هلاك ألوفٍ من المدنيين ممّن لا ناقة لهم في تلك الحرب ولا جمل، ونزوحهم بالملايين إلى ملاذات آمنة، وهي في الحقيقة "غير آمنة"، داخل البلاد وخارجها. ذلك وضعٌ لا ينبغي أن تتجاهله المنظمة الأممية، وفي مواثيقها ما يذكّر بأولويات مهامّها في حفظ الأمن والسّلم الدوليين، ناهيك عن موجبات مسؤولياتها في الالتفات الفوري للمآسي الإنسانية والكارثية المتمثلة في هدر دماء المدنيين الأبرياء، بما يكاد أن يصنّف إبادة جماعية وتصفيات عرقية تدينها المواثيق والاتفاقيات والقوانين الدولية الإنسانية. إلى ذلك، من ينظر إلى الحروب الثلاث في أوكرانيا والسودان وقطاع غـزّة ، قد لا يرصُد اختلافاً في الكارثية والتوحّش، بل هو اختلافٌ في الأمكنة، فهل نجد عذراً لغوتيريس في نسيانه ذكر كارثية حرب السودان في مؤتمره الصحافي؟

أطراف خارجية وأصابع تزيد أوار الحرب في السودان في سعيها إلى جني مكاسب ومطامع خفيّة

(4)
لعلَّ التحدّي الماثل أمام قيادة المنظمة الأممية، بمؤسساتها وهـيئاتها ووكالاتها المتخصّصة، حاجته لتقييم حقيقي لجوانب الأزمة في السودان، بما يعين في رسم خريطة طريق للتعامل مع أوضاع دولة فاشلة فحسب، بل دولة غائبة تماماً وأوضاعها معقدة. المشهد الرئيس هو مشهد حربٍ بين غريمين قواتهما سودانية، لكنها ليست حرباً أهلية. ثمّة أطراف خارجية وأصابع تزيد أوار تلك الحرب في سعيها إلى جني مكاسب ومطامع خفية، لكن بينها، في الوقت نفسه، أطرافٌ تسعى إلى التوسّـط في الظاهر بدرجاتٍ تعلو أحيانا وتُبطئ في أحيان أخرى، لكن رهانها يبدو منصبّاً على إنهاك طرفي القتال السودانيين. بذلت منظمات إقليمية، وبعض دول مؤثرة، مساعي، لكنها تظل كسيحة لا تقدّم حلولا، ولا توقف القتال، إما بسبب تجميد عضوية السودان، مثل ما هو حادث في حالة الاتحاد الأفريقي، أو بسبب ضعف الصوت الفاعل، كما في حالة جامعة الدول العربية، أو لرفض سلطة الأمر الواقع في السودان في التعامل مع جميعها، كما هو الحال مع هيئة الأمم المتحدة ومنظمة إيقـاد، وذلك مسلك سلطة شبحية أقعدها العجز.

إذا ضاقت أخلاق الرجال، أو ضاعت أخلاق بعض قيادات المنظمة الأممية، فإن لها خيارات لا تضيق ولا تضيع

(5)
يبقى على المنظمة الأممية أن تشقّ طريقا سياسيا وإنسانيا لإيقاف الحرب الدائرة، ولكن يبقى عليها قبل ذلك أن تصل إلى تقييم حقيقي للسلطة الإنقلابية القائمة حاليا في بورتسودان، بوصفها قيادة أمر واقع أجهضت ثورة شعبية نجحت في إسقاط حكمٍ اسـتبداديٍّ مكث على صدر أمة صبرت عليه 30 عاما، فإذا هي الآن محض ذكرى بعيدة. غير أن تلك السلطة الانقلابية عجزت عن تشكيل حكومة تدير البلاد، فيما الحرب دمّرت مؤسّسات الدولة، فهي في حالة انهيار، وجيشها منهك، بل كاد أن يكون جيشا مهزوما، وخدمة مدنية غائبة، وجلُّ قواها العاملة من المهنيين، هم لاجئون خارج البلاد أو نازحون غائبون في ملاذاتٍ بعيدة. هي سلطة أمر واقع لا تملك أن يخرج صوُتها ليعبر عن مواقفها، إلا كصياح مخنوق. هي سلطة لا تملك حتى إصدار قرار شكلي بإعلان مدينة بورتسودان عاصمة حقيقية وبديلة للعاصمة المدمّرة، التي تمارس سلطتها المنقوصة منها. هي سلطة انقلابية تكاد تعجز عن إكمال ترشيح سفراءٍ يمثلونها في الخارج، بل ومن سفرائها من عجز عن التواصل مع وزارة خارجيته، المُغيّب قلبها وعقلها، ويزيد في إضعافها تعدّد ألسنتها. تلك حال من عجزٍ عن تشكيل حكومة تقف على رجليها فتحترم سيادتها أطراف المجتمع الدولي، ولا تستصغرها منظمات ومؤسسات إقليمية كانت يوماً هي من مؤسّسيها.   
(6) 
لن يبقى أمام المنظمة الأممية، أمانتها العامة ومجلس أمنها، إلّا أن تنظر إلى واقع أوضاع السودان المـاثل، والتي زادها تردٍّي الأوضاع الإنسانية ضغثاً على إبّالة، وصِغراً على استصغارٍ، لدولة أزرى بها العسكر من بين بنيها أيّما زراية. لقد صار الطريق لإنقاذ السودان وشعبه من حرب عبثية تكاد تكمل عاما مليئاً بالأشواك وبالفخاخ، يكون حرياً بالمنظمة الأممية، وبعد أن ضاقت أخلاق قياداتها، من خيارٍ لازم لأجل الحفاظ على الأمن والسلم الدوليين، فرض الوصاية المؤقتة على السودان لدواعٍ إنسانية.
إذا ضاقت أخلاق الرجال على قول الشاعرالعربي القديم، أو ضاعت أخلاق بعض قيادات المنظمة الأممية، فإن لها خيارات لا تضيق ولا تضيع.