من "الخلافة" إلى "الوصاية"

من "الخلافة" إلى "الوصاية"

01 مايو 2022

(حسين ماضي)

+ الخط -

أقدّر مبلغ الاستماتة الأردنية في الدفاع عن الوصاية الهاشمية على القدس، لا من باب الحفاظ على المقدّسات التي لم تُحفظ أصلًا، بل من باب التشبّث بفلول دور إقليميّ هو كلّ ما بقي للأردن الذي حمل قادته طموحًا أضخم من هذه الزاوية الجغرافية التي حوصر بها، ومن التاريخ الذي لم يتجاوز مائة عام هو عمر الدولة الأردنية.

لم يعد التاريخ الهاشمي سرًّا، على الأقل منذ ثورة الحسين بن علي على الدولة التركية، فمراسلات الشريف مع الممثل الأعلى لملك بريطانيا في مصر، هنري مكماهون، من 1915 إلى 1916، موثقة، وتكشف عن وعود زائفة قطعتها بريطانيا للشريف الحسين في حال ساعدها في تقويض نفوذ الإمبراطورية التركية في مناطق الحجاز وبلاد الشام والعراق، ومن ضمن تلك الوعود جعل الحسين بن علي خليفة للمسلمين، ما يعني أن الدور الهاشمي المأمول كان يشمل بسط السيطرة السياسية على معظم الأقطار العربية التابعة للهلال العثماني الذي كان قد تحوّل، هو الآخر، إلى رمز تركي مع سياسة التتريك الجارية آنذاك، والتي كانت باعثًا رئيسيًّا لثورة العرب ضدّ الأتراك، وهو ما استثمره الشريف الحالم لمباركة ثورته، واستقطاب الأنصار إليها. غير أن حساباته سرعان ما ارتطمت بالمكر البريطاني الذي كان يريد الثورة العربية مطيّة لتحقيق مآربه في تقويض الإمبراطورية العثمانية، وتقسيم المنطقة وفق معاهدات سايكس - بيكو، مع إبقاء فلسطين تحت الانتداب البريطاني، تمهيدًا لجعلها دولة صهيونية خالصة ليهود العالم.

كانت تلك المعاهدة التي بدأت تفوح رائحتها النتنة بداية تقليص الدور الهاشمي، من الخلافة إلى حكم بلادٍ بعينها، مثل سورية التي حكمها الملك فيصل فترة محدودة، قبل أن تجهز عليها فرنسا التي اعتبرت سورية من ممتلكاتها وفق المعاهدة إياها، ولم تعترض بريطانيا، ولا ساعدت حلفاءها الهاشميين في معاركهم ضد الفرنسيين.

ومن غرائب المكر البريطاني أنه في الوقت الذي كانت فيه تسخو بالوعود للحسين بن علي، فإنها مقابل ذلك كانت تؤلّب قبليين نجديين ضدّه، وتوفر لهم الأسلحة والتسهيلات للانقضاض على معقل الأمير وتجريده من كل شيء؛ لأنها بمثل هذا التقويض ستضمن إضعافه، وتحجيم طموحاته بالخلافة، وهذا ما حدث. وعندما احتجّ الشريف وأنصاره من العرب الذين آمنوا بثورته، ارتأت بريطانيا، ومن باب "تطييب الخواطر"، منح حكم العراق للملك فيصل، واقتطاع جزءٍ من بلاد الشام ومنحه للملك عبد الله الأول تحت مسمّى الأردن، وجعله أشبه بمنطقة عازلة وفاصلة بين دول عربية لا تريد التماسّ المباشر مع إسرائيل، كدول الخليج، وبلاد أخرى يُخشى من أن يكون لها تماسّ مباشر مع إسرائيل، كالعراق، بينما رفضت رفضًا باتًّا مدّ النفوذ الهاشمي إلى فلسطين، باستثناء مناطق الضفة الغربية والقدس. ثم جاءت نكسة 1967 لتنهي الدور الأردني فعليًّا هناك، بينما اتخذت بريطانيا موقف الحياد، علنيًّا، حيال الاحتلال الصهيوني، وموقف المبارك والمستحسن لهذا الاحتلال، لكن من باب "تطييب الخواطر" أيضًا، ترك للهاشميين أمر "الوصاية" على المقدّسات في القدس.

أما الواقع الفعلي فيقول إن لا وصاية فاعلة في ظلّ الاحتلال؛ لأن المحتلّ وحده من يتحكّم فعليًّا بها، وبروّادها وزائريها، ومن حقّه أن يدنّسها متى شاء، ويضرم الحرائق بمسجدها على غرار ما حدث في ستينيات القرن الماضي.

الوصاية لا تعني الحماية، حتى وإن كانت وصايةً للعالم الإسلاميّ برمّته. والأنكى أن دور الوصاية الهاشمية، على ضآلته، لم يعد يلقى ارتياحًا حتى من أنظمة تطبيعٍ عربيةٍ أخرى، باتت تطمح إلى التماسّ المباشر مع إسرائيل، وإلى عزل الأردن نهائيًّا عن عمقه الفلسطيني، أملًا بفبركة اتفاقيةٍ ما تنهي الصراع العربي الإسرائيلي، ولو على حساب القدس ومقدّساتها، والفلسطينيين ودولتهم المشتهاة.

من "الخلافة" إلى "الوصاية"، وربما إلى أقلّ من ذلك قريبًا، هكذا تقلّص الدور الإقليمي الأردني عبر مائة عام، فهل يتمرّد الأردن على هذا التحجيم؟

EA8A09C8-5AE7-4E62-849E-5EBF1732C5FF
باسل طلوزي

كاتب وصحافي فلسطيني. يقول: أكتب في "العربي الجديد" مقالاً ساخراً في زاوية (أبيض وأسود). أحاول فيه تسليط الضوء على العلاقة المأزومة بين السلطة العربية الاستبدادية عموما والشعب، من خلال شخصيتين رئيسيتين، هما (الزعيم) والمواطن البسيط (فرج). وفي كل مقال، ثمة ومضة من تفاصيل هذه العلاقة، ومحاولة الخروج بعبرة.