مصر بين مشهدين من الحدود

مصر بين مشهدين من الحدود

06 يونيو 2023
+ الخط -

اشتبك جندي مصري، في 3 يونيو/ حزيران الحالي، على الحدود مع الكيان الصهيوني مع دورية إسرائيلية اخترقت الحدود، فقتل ثلاثة وأصاب اثنين، تضاربت الروايات بين الجانبين فاتهمه جيش الكيان بأنه عنصر تخريبي من الشرطة المصرية، فيما قالت أجهزة الدولة المصرية، والمتحدث العسكري "إن الجندي كان يلاحق تجّار مخدرات ومهربين وأثناء المطاردة قام فرد الأمن باختراق حاجز التأمين وتبادل إطلاق النيران، مما أدى إلى وفاة 3  أفراد من عناصر التأمين الإسرائيلييين وإصابة 2 آخرين".  وبطبيعة حال تلك الحوادث المتكرّرة لن تتضح حقيقتها إلا بعد سنوات وربما عقود.
لكن تضارب الروايات هذا سمح لنا أن نفخر، مصريين وعربا، ولو على مواقع التواصل الاجتماعي، ونشم روح حرية ونصر ولو افتراضيا على كيان مغتصب يظل عدوّا في المخيلة الشعبية العربية، مهما روّج دعاة التطبيع ومدّعو السلام الإبراهيمي وتلك القيادات السياسية الباقية في المنطقة برضى الكيان والأميركيين فقط عنها. تبدو الأجواء احتفائية واحتفالية بالبطل المصري رسمتها ريشة أحد الفنانين الفلسطينيين بصورة نسر يلتف بالكوفية الفلسطينية وجابت الصورة مواقع التواصل في ساعات وانهالت بوستات الفخر والفرح بما قام به الجندي المصري الشجاع على حدود مصر الشرقية.
هذا هو المشهد الأول. تحرص الدولة المصرية كما يحرص الكيان على تجهيل الجندي القائم بالعملية، حتى لا تصير شخصيته أيقونة عربية ومصرية مثل شخصية الشهيد البطل سليمان خاطر وحتى لا تتكرّر. وبينما انتفض جيش الاحتلال وحكومته على كل المستويات من الرئيس ورئيس الوزراء ووزير الخارجية لوزير الدفاع ورئيس الأركان لمتابعة مقتل الجنود، لم يظهر سوى بيان مقتضب للمتحدّث العسكري، والبيان يحمل ضمنا العسكري المصري مسؤولية اختراق الحدود. يجعل هذا الاقتضاب قطاعا واسعا من المصريين أقرب إلى تصديق رواية الكيان عن الحادث أو على الأقل بانتظار الإفراج عنها من الأرشيف مستقبلا لمعرفة حقيقة الأمر.

النظام الذي اعتاد إذلال المصريين في الداخل لا ينتفض عادةً لأية عملية لإذلالهم في الخارج

وبغض النظر عما إذا كان الجندي يطارد تجار مخدّرات أو يطارد جنود الاحتلال حال اختراقهم الحدود فإن هذا مثال حي لبسالة جندي مصري صميم يؤدّي دوره في حماية تراب البلد الذي نعشقه جميعا نيابة عنا، وهو سلوكٌ يستحقّ الفخر والاحتفاء شعبيا ورسميا، بل ويستحق محاسبة حكومة الاحتلال على مقتله حال ثبوت اختراق جنود الاحتلال الحدود، أيا كانت الأسباب، وما يستحقه هذا الشهيد البطل ليس أقلّ من جنازة عسكرية طالب بها كثيرون على مواقع التواصل، لكن هذا لن يحدُث مع الأسف في السياق الحالي الذي يمثل فيه عبد الفتاح السيسي حليفا استراتيجيا لإسرائيل.
المشهد الثاني هو شديد الإهانة للمصريين في ليبيا، والذين جرى ترحيلهم قسريا في نفس اليوم السابق الثاني من يونيو/ حزيران مشيا على الأقدام من أحد المعسكرات في الشرق الليبي الذي يسيطر عليه خليفة حفتر وحكومة مدعومة من السيسي، بل وجرى دعمه سنوات بينما هو يقف ضد المصالح المصرية في السودان، وفشل تماما في تحقيق أيٍّ من الأهداف المزعومة  للتحالف معه، فلا هو استطاع السيطرة على طرابلس وكامل التراب الليبي كما زعم، ولا هو استطاع فرض الأمن في الشرق الليبي الذي انطلقت منه أسوأ العمليات الإرهابية ضد مصر في وقت سيطرته على الحدود، بل وكانت المدن التي ذبح فيها المصريون سابقا تحت سيطرته ولم يحرّك ساكناً.
هذا المشهد شديد القسوة والإهانة، وسواء كان هؤلاء مهاجرين شرعيين أم غير شرعيين، فإن كل المواثيق الدولية تقتضي معاملتهم معاملةً لائقة، وليس تسييرهم في الصحراء على الأقدام عدة كيلومترات بالجوع والعطش في مشهدٍ مذل. ولكن النظام الذي اعتاد إذلال المصريين في الداخل لا ينتفض عادةً لأية عملية لإذلالهم في الخارج، فلا يزال مشهد الجنود الذين أسروا في السودان على يد مليشيات حميدتي ماثلا أمام أعيننا، ولا يعرف أحدٌ حقيقة رواية عودتهم، فالنظام اعتاد في تلك المشاهد إخراج العائدين على كل القنوات ليشيدوا بجهوده، فلم يفعل مع هؤلاء وهذا غير مفهوم ومثير للجدل أيضاً.

لا يتذكّر الإعلام أو النظام المصريين في الخارج عادة إلا لمناداتهم لإنقاذ اقتصادٍ لم يساهموا يوماً في التخطيط له

هذا النظام الذي اعتاد أن يتعامل مع المصريين في الداخل والخارج كبقرة حلوب، لم يتذكّر إعلامه وصحافته الموجهان هؤلاء المصريين الذين ملأت صورهم وڤيديوهاتهم مواقع التواصل الاجتماعي والصفحات الليبية المشهورة، وبالذات تويتر وكذلك القنوات والصحف الدولية، فيما لم تصدُر عن الإعلام المصري أية متابعة للخبر أو تحليله، وكأن هؤلاء كائنات شفافة وغير مرئية ومتابعتهم غير هامة على الإطلاق.
لا يتذكّر الإعلام أو النظام المصريين في الخارج عادة إلا لمناداتهم لإنقاذ اقتصادٍ لم يساهموا يوما في التخطيط له ويتضرّرون يوميا من السياسات الحكومية المتبعة لتخطيطه وتنظيمه، والتي تؤدّي إلى خسائر شديدة لهم بسبب عدم استقرار العملة، وعدم توفير حماية قانونية لهم في الخارج، وارتفاع تكاليف التحويلات عبر الطرق الرسمية، ما يتركهم عرضة للنصب عبر التحويل بطرق غير رسمية، وسياسات تمنعهم من البناء على أراضيهم وملكياتهم الخاصة أو بناء شقق لأبنائهم في بيوتهم بوقف تراخيص البناء أو بالتضخّم شديد الارتفاع الذي طاول تلك المواد بسبب السياسات الحكومية.
بين هذين المشهدين، تبقى مصر حائرة وتائهة بين مشهد غني بالعزّة والكرامة يصنعه ملح الأرض من المصريين، وسياسات خارجية وداخلية فاشلة لم يشارك المصريون في صناعتها يوما، صنعت مشهد العائدين قسرا من ليبيا مشيا، وقد تشوه سمعة الجندي كما فُعل بسليمان خاطر سابقا بكل الأسف.