ليالي الحرّ في قرطبة

ليالي الحرّ في قرطبة

27 مايو 2022

مسجد وكاتدرائية قرطبة في الأندلس في إسبانيا (11/10/2015/Getty)

+ الخط -

في قرطبة، المكان شاسع والجمالُ الأصليُّ غالب، إلى درجة أن الإضافات التي رافقت تحويل جامع قرطبة إلى كنيسة بدت متكلّفة ودخيلة، أكثر مما هي عليه الزوائد في خيرالدا إشبيلية، التي أتاحت هندسُتها هوامش أمكن استغلالها لاحقاً، كما أن علوّ الخيرالدا قريبٌ من النمط القوطي للكاتيدرائيات. ولكن في جامع قرطبة، أو "الماثكيطا"، القالبُ غالب، والجمال فطريٌ وعتيق، بحيث يقاوم التدخل السّياسي في هندسة المدينة. هل كان من الصعب على الإسبان بناء كاتدرائية مجاورة، وتحويل المسجد إلى متحف أو مزار كما هو الآن، مع الحفاظ على مرجعيّته الدينية الأصلية؟ صحيحٌ أن المحو الثقافي جزءٌ من سياسة المنتصر في القضاء على آثار المغلوب، والمنكّل به أشدّ التنكيل. لكن المنتصر المتطرّف فقط هو من يمحو آثار الذين سبقوا، وإلّا لما احتفظ العالم بكل هذه الآثار، وبعضها حافظ عليها أعداء بُناتها الألداء. وأقرب نموذج للتطرّف ما فعله "داعش" في الدول التي مرّت عليها آلته المدمّرة لآثار بالغة القدم، صمد بعضُها في وجه أكثر الجيوش دمويةً في تاريخ المنطقة، لكنها لم تنج من دموية هذا القرن التي يرتدي بعض معتنقيها رداء الدين، وهو بريء منها.

لعلك حين تستعيد جرائم محاكم التفتيش يهون علينا الأذى الذي لحق بالرموز الدينية والثقافية في الأندلس، مع كل الأذى الذي أصاب الإنسان بوحشيةٍ لا مثيل لها في التاريخ، فمحاكم التفتيش قلعت جلود الأندلسيين، وفتتت عظامهم أحياء، فكيف لا تقلع جلد الإسلام من الجوامع؟ لكن العتب على من جاء لاحقاً، فهي تمثل جزءاً زاهياً من تاريخ المنطقة، وكان على الدولة الإسبانية المعاصرة إعادتها إلى أصلها، جزءا من عملية إعادة الاعتبار لتاريخ الأندلس، وتعويضا رمزيا عما لحق بالأندلسيين من إبادة وتنكيل.

تتردّد آهات العرب والمسلمين الذين يزورون المكان، وتكاد تُسمع أجنحة الأحلام، وهي تخفق لاستعادة الأندلس، مع ما في فكرة الاستعادة من مبالغة. ولكن الطموح الواقعي يبقى أن يُحفظ التاريخ كما هو، من دون تزوير. في انتظار أن ينجح مسلمو إسبانيا وحقوقيوها، يوما ما، في الدعوة إلى عودة المساجد إلى أصلها.

في المقابل، لا يمكنك ألا تشعر بالجمال العظيم في الكاتدرائيات الكبرى التي بُنيت لأجل دين واحد من أول لبنة. في ساغرادا فاميليا، تدهش لشدّة الجمال والإيمان الذي صمّم به غاودي البناء والمنحوتات الأصيلة التي تحضن البناء وتحيط به، كأنّها جزء من الجدران والسّقوف، لا مقحمة إقحاما كما في الخيرالدا والمسجد الكبير في قرطبة، حيث قابلت أدلاء سياحيين عديدين. وقف أحدهم أمامي قرب الجامع، وهو يثرثر بالإسبانية. ليتني أعرف ماذا يقول، يبدو لي متشنّجا، وهو يذكر كلمة المغاربة عدة مرّات. هل قال هم من الذين احتلوا المنطقة أو هم من صنع هذا المجد؟ لن أعرف أبدا أنا التي طالما نفرت من اللغة الإسبانية.

في زوايا المسجد، تجذبك نتوءاته التي أُنبتت فيها منحوتاتٌ لشخصيات دينية أو لقادة إسبان، وتشعرك بعدم الارتياح، وهي تكاد تتلاشى من الألم والمعاناة والعجز واليأس .. في هذا السياق، تلعب الكنيسة أكثر مما فعل بعض المتشدّدين في الإسلام على حبليْ الألم والعذاب لإبقاء المؤمن خائفا من الله، بدل أن يكون آمنا بفضل إيمانه.

جسد المسيح المصلوب والمتدلي أكثر حزنا هنا من كاتدرائياتٍ كثيرة في أوروبا. الجسد نفسه في صورة أخرى، محمولا بين سواعد حواريّيه. والمَرْيَمَتان، أمه العذراء وتلميذته المجدلية، تنهاران حزنا وتنحنيان على الجسد المقدّس المنكّل به .. وغيرها من صور الألم التي تقع عليها عيناك.

ما يثير الحنين في المكان ليست الآثار فقط، بل أهلها الأندلسيون الذين يحبّون الحياة كما لا يحبها أحد. في كل حي ساحة، وفي كل ساحة مطاعم ومقاه وبارات يسهر فيها الإسبان ومن معهم، من دون أن يبدو عليهم التذمّر من الحرارة الشديدة في المدينة، حتى لتكاد تشعر أنّك في الصّحراء العربية، لا في القارّة العجوز الباردة. لقد نسي الذين تغنّوا بالأندلس أن يخبرونا عن طقسها الجهنّمي، لعله جمالها الذي لا مثيل له، هو ما شفع لها ما تقدّم من حرارتها، وما تأخّر.

596D72F8-6B45-4709-8735-7AC0F35F2CE1
596D72F8-6B45-4709-8735-7AC0F35F2CE1
عائشة بلحاج

كاتبة وصحافية وشاعرة مغربية

عائشة بلحاج