لا "براءة" من مظفّر النواب

لا "براءة" من مظفّر النواب

05 يونيو 2022
+ الخط -

لا أحد عايش معضلة الحبّ والنبذ كما عاشها مظفّر النواب، فالكلّ أراده شاعراً بلا جسد، وقصيدة بلا ديوان، هو الممنوع المرغوب، الحادّ الرقيق، الصلب العذب، الكائن الذي تستضيفه القلوب وتطرده القصور.

لم يفهم أحدٌ مبلغ الحنين الجارف في عيني مظفّر النواب إلى الملاذ الدافئ، لكنّه لم يُتقن النثر كما أتقن الشعر. ولذا جاء حنينه ضرباً من البكاء المشحون بالهذيان. كان يحتاج حمّاماً ساخناً، ووجبة بطيئة التناول، وقيلولة تتيح له أن يحلم، ولو مرّة واحدة في حياته، كما يحلم الآخرون، غير أنّه لم يحظَ بمثل هذا "الترف" في حياته المحمولة على وتريّات المنافي والحزن الذي أنكره واعترف به في العبارة ذاتها: "مو حزن لكن حزين" ولم يسمع "حمد" صوت "الرّيل" الذي كان يحمل مظفّر النواب إليه بكلّ حقائب تعبه، فتبدّدت رائحة القهوة التي طاردها، ولم يتوقف القطار عند أي محطة تتيح لمظفر استراحة عاشق، أو محارب، هو الذي بكى خلف ثلوج النوافذ المغلقة، متخيلاً امرأة ستشتريه يوماً بقليلٍ من "زوايا عينها"، وتعرف "شدّاته وتنوينه وضمّه".

أجيال كثيرة تداولت مظفّر النواب، وتربّت على قصائده، ربما لأنه كان "أمميّاً" ينشر ساقيه على طرفي "الأبيض" و"الأسود"، فينحاز إلى الفقراء والشهداء والمتمرّدين، ويهجو المنتفعين والمتكرّشين، لا مكان للوسط في قاموسه، لعن الأنظمة فلعنته الأنظمة، عندما أفردت بنداً خاصّاً في الممنوعات لـ"قصائد الدمار الشامل" التي يدوّنها بأعصابه.

عموماً، تحدثت، في مقال سابق في "العربي الجديد"، عن "لائحة مظفّر النواب"، تعقيباً على تكرار شائعاتٍ تردّدت كثيراً عن رحيله، وأعني بها لائحة "أولاد القحبة" التي افتتحها في سبعينيات القرن الماضي، بقصيدته "القدس عروس عروبتكم"، والتي قلت إنّها تضم كلّ من تواطأ على حشر زناة الليل في حجرة القدس ليغتصبها، ولا تقتصر على أنظمة عربية وحسب، بل تشمل كلّ من يلوذ بالصمت، حتى من الشعوب ذاتها، إن آثرت الاستكانة لمعطيات الاستبداد، واختارت "الفرجة" سبيلاً واحدة للتفاعل مع الأحداث. وشعرت بأنّ من واجب الجميع أن يثبت "البراءة" أمام مظفّر النواب، ليرفع اسمه عن هذه اللائحة السوداء. وفي ذلك تذكير بقصيدته "البراءة"، التي تتبرّأ فيها الأم من ابنها إن حاد عن جادّة النضال، فالأمر لا يحتمل أيّ نوع من المساومة عند مظفّر، عندما يتعلق الأمر بالانحياز إلى الفقراء والمضطهدين، حتى ولو كان الجلاد أخاً أو أباً.

وقلت أيضاً إنّه يحسب لمظفّر النواب أنّه كان يتقن فن "الصدمة" التي لا تترك مجالاً للتأويل، مثلما يُحسب له أنّه جعلنا نتقبّل المفردة الشعرية البذيئة، من دون أن نحتجّ أو نبدي معارضة أخلاقية عليها، لأنّه كان يأتي بها عبر تصاعد درامي، ليضعها في ذروة الحدث الشعري، لتصبح في مكانها تماماً، فيجعلنا نسبقه إلى قولها، لو لم يسبقنا إليها هو بنفسه.

والأنكى أنّ هذه اللائحه لا ترحل برحيل شاعرها، وكأنّه يريد الثأر من كلّ من أراده شعراً لا جسداً، فهي لائحةٌ خالدةٌ قابلة لإضافة أسماء جديدة يوميّاً، ولا سيما في زمن التطبيع الجديد الذي يتكاثر فيه المفرّطون و"تجّار السلام".

كنا نطلب منه أن "يرتاح ويريح"، غير أنّه آثر أن "يرتاح ولا يريح"، ما دامت مفرداته تدكّ قصور الهاجعين على عروش الاستبداد. وكنا نظنّ أنّ مظفّر سيظفر أخيراً بحيّز من الراحة المشتهاة، إثر سقوط النظام العراقي السابق، غير أنّ من يعرف هذا الشاعر جيداً يدرك أنّه كائنٌ غير قابل للحياة في وطن "حرّرته" الدبّابات الأميركية، ولذا لم تدم إقامته طويلاً فآثر الرحيل. وكلّ رحيلٍ كان يسلمه لرحيل آخر.

وأغلب الظن أنّ الموت، في عرف مظفّر النواب، نوع من السفر، سواء كانت خاتمته منفى جديداً يتعيّن عليه أن يعيش فصوله، أو محطّة أخرى ستخذله ثانية، حيث لا مستقبلين ولا مودّعين .. تلك معضلته هو مع المنافي، أما معضلتنا الحقيقية نحن "المقيمين"، وربما صدمتنا الحقيقية، عندما نكتشف أن مظفّر النواب رحل، ولم يمنحنا شهادة "البراءة".

EA8A09C8-5AE7-4E62-849E-5EBF1732C5FF
باسل طلوزي

كاتب وصحافي فلسطيني. يقول: أكتب في "العربي الجديد" مقالاً ساخراً في زاوية (أبيض وأسود). أحاول فيه تسليط الضوء على العلاقة المأزومة بين السلطة العربية الاستبدادية عموما والشعب، من خلال شخصيتين رئيسيتين، هما (الزعيم) والمواطن البسيط (فرج). وفي كل مقال، ثمة ومضة من تفاصيل هذه العلاقة، ومحاولة الخروج بعبرة.