كالذي يحملُ تاريخه على كتفيه

كالذي يحملُ تاريخه على كتفيه

02 نوفمبر 2020

(فاتح المدرس)

+ الخط -

لست سوى تاريخك يمشي على قدمين؛ كلّ ما فعله أسلافك من خيرٍ أو شرّ يتأرجحُ على كتفيك. كلّ ما طاول تاريخك من تحريفٍ أو تشويه يقف فوق رأسك. كلّ ما تسرّب من تاريخك إلى الآخرين، بما فيه ما لا تعرف عنه شيئًا، يسبقك. هذا أنت؛ نعم، لكن ليس تمامًا، لأن الآخرين يرون فيك أزمنةً وأمكنة وأناسًا لم تعرفهم أبدًا، وربما لم تسمع عنهم أيضا. كم مرّة وجدت نفسك في مكانٍ تسمع فيه أوّل مرة أشياء عنك وعن تاريخك، يخبرك عنها الآخرون. فتدرك أنّهم يرونك من خلال هذه الحكايات. ومهما قلت أو فعلت، لن تُغيّر نظرتهم. وربّما، في نهاية المطاف، تقبل بها وتنظر أنت أيضًا إلى نفسك من خلالها كذلك. لأنّ هذا أسهل من أن تقضي عمرك، وأنت تشرح لهم أنّك شخص آخر، غير الذي صنعوه أو توقّعوه. وأنّك دستَ على التّاريخ والجغرافيا، ولم تعد تكترث بأي فوارق بين النّاس. الإنسان عندك معدنه، والباقي هلامٌ يذوب تحت الشّمس.

الآخرون معذورون، فبعضهم لا يملك الطّاقة أو الجهد الكافي لمعرفة معادن الناس، أو الذّكاء المطلوب لذلك، لذا من الأسهل تصنيف الناس إلى فئاتٍ محدّدة. كلما التقوا شخصًا جديدًا يبحثون في ذهنهم عن فئته ليدسّوه فيها، مثل لعبة بازل يملأون الفراغ بما يُناسبه، ويلعبون وهم يملكون حقيقةً واحدة ثابتة ينطلقون منها: إنّ لكل قطعة مكانها، ولن تكون هناك مفاجآت. كما أنّ لكل فراغ ما يملأه، ولن يجد أحدٌ نفسه أبدًا في لحظة حيرة. وما عليه سوى وضع القطعة المناسبة في المكان المفصّل على مقاسها، قبل أن يتنفس الصعداء، فلا جهد للتّعامل مع المجهول.

هل يمكن أن يتحرّك الإنسان قيد أنملة في هذا الكون، من دون أحكامه المسبقة؟

قديمًا قال العرب "الذي تعرفه خير من الذي لا تعرفه"، وقتلوا المعرفة، والفضول والحاجة إلى تجديد المعارف والناس والأمكنة والأزمنة.. قالوا أيضا إنّ الإنسان لم يعد له قيمة؛ فقط التاريخ ينتصر، وما الإنسان إلّا تاريخه. وتصبحُ عملية التعرّف إلى الآخرين أشبه باللَّعب، هناك أماكن موجودة مسبقًا ومن نوعيات مختلفة: علبٌ أو غرف، ذلك يعود إلى طبيعة الشخص، ومهما كان نوع (أو شكل) الإنسان الذي يتم التعرّف إليه، فهو يملك علبة خاصة بنوعه الذي لا يخرج عن عدد العلب الموجودة والأنواع التي تمثلها.

ذلك أنّ الهوية، وفق هذا المعطى، ليست "وعيًا بماهية خالصة، جوهرية، ميتافزيقية ومطلقة، بل هي نتاج سيرورة تاريخية من التحوّل والتجدّد، وإعادة التّعريف وتغيير دوائر الانتماء والتطور المستمر"، كما ذهب إلى ذلك رضوان سليم في كتابه "الثورة الديموقراطية". فيما تكمن، في نظر أمين معلوف، "خطورة الخطابات حول الهُوية في القابلية للانزياح للمنطق الحربي وللثّنائيات الحادّة ولتبرير الإقصاء والتفوق والتراتبية والكراهية والعنصرية"، على نحو ما يسمّيها "الهويات القاتلة".

هكذا يدور الصّراع بين الثقافات والمجتمعات، ليقودنا إلى ما خلص إليه في روايته الصّادرة أخيرا "إخوتنا غير المتوقعين"، على لسان الطبيب بوزانياس: "حين يتبع بعض البشر طريقهم الخاص، من دون أن يكون ذهنهم مقيّدا بالمحرّمات والأحكام المسبقة، ومن دون أن يكون لديهم شاغل آخر غير دحر الجهل، سيتمكّنون من المُضي قدما بشكل أسرع من الآخرين، ويجدون أنفسهم بعيدًا جدًا في الأمام". لكن يا لها من نظرة حالمة؛ هل يمكن أن يتحرّك الإنسان قيد أنملة في هذا الكون، من دون أحكامه المسبقة؟ هو الذي مهما ثقُلت أحكامه، لا يتركها في أيّ مكان، لأنّه لا يتعرّف على نفسه من دونها، وحتما لن يتعرّف على الآخرين من دونها أيضًا، فهو لا يملك معرفة كافية خارجها.

تُحصر الحرية في القولبة، وفي تحميل الإنسان عبء ما يفعله الآخر، فقط لأنّه قادمٌ من المكان أو الزّمان أو الفكر نفسه

كلّ هذا الحديث عن التاريخ والأحكام والهوية، ليس عبثيًا، بل يحاول الاقتراب مما يحدث في فرنسا هذه الأيام، من انتحارٍ للمنطق، وهوسٍ بغيضٍ بالإقصاء. بلاد الحرّية تأكل بعضها، على الرغم من أنها لا تستطيع الاستغناء عن مواطنيها من أُصولٍ أجنبية، المسلمة بشكل خاص، ولا تمنحهم كرامة العيش فوق أراضيها. هنا يتحوّل المثل لنقول "لا كرامة لمهاجر في وطنه الأول ولا الثاني"؛ لا كرامة له هنا، لأنه لم تكن له كرامة أصلًا في بلده الأم، الذي قد يكون جده من أتى به من هناك، لكنه بشكل أو بآخر، بسبب لونه وثقافته، يبقى الانتماء البعيد له وصمةً على جبينه. وليس هو من عليه الاندماج، فهو يفعل كل شيء حسب رغبة الجمهورية، لكن مهما فعل فالجمهورية لا تحبّه، ولا ترى فيه إلّا ما تراه المطرقة؛ "إذا لم يكن في حوزتك غير مطرقة، فستتعامل مع كلّ شيء على أنه مسمار".

تُحصر الحرية في القولبة، وفي تحميل الإنسان عبء ما يفعله الآخر، فقط لأنّه قادمٌ من المكان أو الزّمان أو الفكر نفسه، إذن فهو "الآخر". ويجب سلخه من هناك، ومعاقبته على ما فعله الآخرون، الذين يملكون الانتماء نفسه؛ فالعيب في الانتماء لا في الإنسان. وبهذا، يجمع المنطق "أشياءه" (أو جلّابته على قول المثل المغربي)، ويغادر من دون أن نعرف أين يتجه. ولا يتبقّى على الساحة، سوى سياسيين شعبويين مثل ماكرون وترامب.. يطلقون الكلام على عواهنه، مكرّسين الفكر الإقصائي والكراهية داخل مجتمعاتهم، ما سيؤدي إلى صدام عنيف في المستقبل، بين الأطراف التي يفاقمون خلافاتها بخطابات عنصرية عمياء، لا تعبّر سوى عمّن يعيش خارج منطق التّاريخ وبداهة الجغرافيا.

596D72F8-6B45-4709-8735-7AC0F35F2CE1
596D72F8-6B45-4709-8735-7AC0F35F2CE1
عائشة بلحاج

كاتبة وصحافية وشاعرة مغربية

عائشة بلحاج