قيس سعيّد .. "مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَىٰ"

قيس سعيّد .. "مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَىٰ"

08 يوليو 2022
+ الخط -

الطاغية ذلك الحاكم المُسْتَبِدُ الذي شغل فلاسفة الاجتماع والسياسة عبر التاريخ. الطغيان ليس مرحلة زمنية، بل هو عابر للزمان والمكان. وهو لا يأخذ شكلاً واحداً، وإنما أشكالاً ونظماً متعدّدة. والطاغية ليس فرداً ولا حتى نظاماً فحسب، بل هو حالةٌ أزلية تبقى تجدّد نفسها ما قامت شروطها. ولا يكون هناك طغيان وطاغية من دون أعوان وعسس وجند، ومن دون مزينين لهما من شعراء وفصحاء وفلاسفة وإعلام وكهنوت ديني. وهما لا يسودان، أيضاً، إلا إذا صمتت النخب وتواطأت، وإذا رضيت الشعوب أو خدعت. وليست وحدها شعوب "الشرق" منكوبةُ اليوم بالطغيان، كما يجادل بعض فلاسفة الاجتماع والسياسة، بل إن كثيراً من شعوب "الغرب" ترزح هي أيضاً تحت طغيان الرأسمالية المتوحشة، والديمقراطية القشرية. لكن صور الطغيان في "الغرب" أكثر حداثية وجاذبية، إذ تتيح للإنسان قول وفعل كثير مما يريد، ضمن حدود الحرّيات الشخصية، مع بقاء قدرته على التغيير الجذري والبنيوي محدودة. على أي حال، هذا موضوع آخر.

لم يعدم التاريخان، البعيد والقريب، نماذج للطغاة، كما لا يعدم الحاضر نماذج شتّى وكثيرة لهم. من ثمَّ يغدو اللجوء إلى سرد أسماء هنا من باب ما لا يلزم. كثير من طغاة اليوم، الذين نعرفهم جميعاً ونعاني من ويلات وطأتهم، لا يأبهون إن تحدّثنا وكتبنا عن طغاة الأمس، بل هم يشجّعون على ذلك، ما دام فيه تخديرٌ لنا عن مناقشة طغيانهم هم. لذا لا تعجب وأنت تتابع تلك الوثائقيات والمسلسلات والأفلام التي تسلّط الضوء على نماذج، مثل نيرون وإيفان والحجاج وجنكيز خان وهتلر وموسيليني وتشاوشيسكو، ففي ذلك إلهاء وتنفيس، ما لم تكن ضمن سياق التحليل والتأليب على فلسفة الطغيان عموماً، وعلى طغيان الحاضر وجلاوزته. والأصل أن مخازي طاغية وحقبته لا تُبْرَزُ وتكشف إلا بعد وفاته أو قتله أو إطاحته. كان هذا حال عبد الناصر، ومبارك، وصدّام، وبن علي، والقذافي... إلخ. وغداً، عندما تطوى صفحات طغاة الحاضر، ستفتح ملفاتهم أيضاً لتحميلهم الأوزار وحرف أنظار الشعوب عن عسف وظلم طغاة المرحلة الجديدة.

إذا كان في التاريخ والحاضر من عبرة حازمة، فهي أن الطاغية والطغيان لا يأتيان بخير

والطاغية ليس بالضرورة أن يكون متمكّناً، حاكماً بقوة الحديد والنار التي تخضع لصولجانه، وتدين بالولاء والطاعة له رهبة ورغبة، بل هو قد يكون دميةً يحرّك خيوطَها من وراء ستار لاعبون آخرون، محليون، وإقليميون، ودوليون لتنفيذ أجنداتهم. هو قد يكون شعبوياً، سفيهاً، بل وقد يملك بعض حسن نيات، ولكنه محدود الكفاءة والقدرات، فتكون تلك ثغرات نفاد الخبثاء إليه، خصوصاً إن كان مغروراً مصاباً بداء العظمة، في محاولة للتغطية على شعور رهيب بمركب النقص والتفاهة عنده.

ما سبق يُؤَطِّرُ نموذج الرئيس التونسي، قيس سعيّد، الذي لم يكتف بالانقلاب على الدستور، العام الماضي (2021)، فأتبعه بانقلاب آخر على بعض شركائه فيه، وفي مقدمتهم الصادق بلعيد الذي نصّبه رئيساً للجنة صياغة دستور "الجمهورية الجديدة". "فجأة" اكتشف بلعيد أنه ما كان إلا واجهة رخيصة لمشروع أكثر خبثاً تقف وراءه جهات محلية وإقليمية ودولية لإخصاء تجربة تونس الديمقراطية وتبديد أوكسجين ثورة الياسمين الذي انتشر، قبل عقد، عبقه في طول العالم العربي وعرضه. ومن مفارقات عجيبة أن يصف بلعيد الدستور المقترح بأنه يمهد الطريق لـ "نظام دكتاتوري مشين"، وكأنه ليس شريكاً في الجريمة ابتداء!

الموضوعية تقتضي أن نقرّ بهفوات وأخطاء كارثية ارتكبتها القوى السياسية، لكن هذا لا يعني أبداً أن الطغيان هو الحل

لن ننشغل هنا في استشراف نتيجة "الاستفتاء الشعبي" المزعوم على دستور سعيّد، والذي يضعه فوق الشعب والدولة والمؤسسات والمحاسبة ويتيح له رئاسةً أبدية، فالنتيجة محسومة سلفاً لصالحه، اللهم أن يتمثل الشعب التونسي من جديد حكمة شاعره، أبو القاسم الشابي، التي يقول فيها: "إذا الشّعْبُ يَوْمَاً أرَادَ الْحَيَـاةَ/ فَلا بُدَّ أنْ يَسْتَجِيبَ القَـدَر". أيضاً، لن نستغرق كثيراً في مصير انقلاب سعيّد، فحقبته ستأتي إلى نهاية، سواء لعوامل طبيعية أم قهرية. ما يهمنا هنا الثمن الذي ستدفعه تونس وشعبها، حتى ذلك الحين، جرّاء هذا الطيش وهذا السفه. عندما قام سعيّد بانقلابه قبل عام أيده كثيرون من الشعب المرهق من صراعات الأحزاب و"صداع" الديمقراطية. نعلم، طبعاً، أن كثيراً من تلك الصراعات كانت تحرّكها أصابع محلية وأجنبية غير راضية عن التحول الديمقراطي في تونس ولم تكن تريد له النجاح، ولكن الموضوعية تقتضي أيضاً أن نقرّ بهفوات وأخطاء كارثية ارتكبتها القوى السياسية. إلا أن ذلك لا يعني أبداً أن الطغيان هو الحل، وإذا كان في التاريخ والحاضر من عبرة حاسمة حازمة فهي أن الطاغية والطغيان لا يأتيان بخير أبداً، ولك أن تتأمل في تجارب بعض النماذج التي ورد ذكرها في هذا المقال، وترى بنفسك أَيَّ مهاوي الردى أوردوا بلادهم وشعوبهم.

يجسّد فرعون صورة الطاغية في القرآن الكريم، وهو عندما نُبِّهَ إلى خطورة المسار والمصير الذي يقود إليه مُلْكَهُ وشعبه ودولته أجاب: "مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَىٰ وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ" (غافر: 29). النتيجة مسجّلة ومعروفة ولا داعي لسرد تفاصيلها هنا، وهي كانت تجسيداً لقول المولى جلَّ وعلا: "وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَىٰ" (طه: 79). نسأل الله أن لا يكون مصير تونس وسائر بلادنا مصير فرعون وقومه. صحيحٌ أن لدينا فراعنة اليوم لا فرعونا واحدا، ولكننا لسنا مضطرّين أن نكون كشعبه أغناماً تُساق إلى الذبح والسلخ، ولا شيء يحتّم على نخبنا أن تكون كملأ فرعون وجنوده فتكون ضمن الهالكين معنا جميعاً.