في مديح الانهيار والإفقار

في مديح الانهيار والإفقار

11 مايو 2023

(مروان قصاب باشي)

+ الخط -

في بداية رحلة اللبنانيين نحو الإفقار، منذ ثلاث سنوات، خرجت مبادرات فردية لتلافي آثاره. كانت مبادراتٍ خلاقة، يعتزّ بها أصحابها، يقدّمونها على شاشات صغيرة، أو أشرطة فيديو أو بوسْتات في المواقع التواصلية. والأرجح ان وتيرة إبداعهم كانت أبطأ من وتيرة الإفقار، فائق السرعة. بعضهم "صمدَ"، ربما بفضل روحية "الفَيْنيق"، ولعبها على نغمة "التكيّف" الخارق لشعبنا، وانبعاثه من الرماد. وبعضهم سكتَ، أو غمرَه العوز، أو نجا بأن هاجرَ.

وراجت بين بعضهم فكرة أن "ما في شي بلبنان"، أي إن الأمور فيه مستتبة، والحياة فيه هانئة، رغيدة. وكنتَ إذا سألته عن هذا "الشيء" الذي لا يحصل، يجيبك بأن الطقس جميلٌ هنا، وبأننا نتدبّر أمورنا ويومياتنا، ولا نحتاج إلا للقائكم... وأشياء من هذا القبيل. والغريب...، أو ليس غريباً، أنه شيئاً فشيئاً، باتَ هذا الإنكار، "ما في شي"... منتشراً وسط أناسٍ تعرف أنهم من جماعة الممانعة، أكانوا من الدراويش، أم اليساريين السابقين، الملتحقين بـ"مشروع حزب الله المقاوِم".

وظهر حسن نصر الله في خطاباتٍ، يحثّ الفقراء الجُدد فيها على "الاعتماد على الذات"، باستيراد المازوت الإيراني عبر الشام، أو بزراعة الخسّ والبندورة والخيار على شرفاتهم، إلى ما هنالك من أوجه هذا الاعتماد. وفي هذه الأثناء، بعَيد خطابات "الاكتفاء الذاتي" لحسن نصر الله، أو قبيلها، كان الحزب، المنسجم مع نفسه، يبني هياكله الاقتصادية الخاصة، ينشئ مصرفاً، "القرض الحسن"، ويدير دولاراتٍ آتية من الخارج في ميزانيته الخاصة بكادراته، ويقيم هياكله الاقتصادية الخاصة، الموازية للهياكل المهدّمة. ومع هذه الخطابات "التنموية"، انطلقت الأقلام في إعلام الحزب، راضيةً مطمئنة، فصرتَ تقرأ لممانعين ضالعين نصوصاً تفصِّل هذه الخطابات، تنظّر لها، تستعين بقواميس الاقتصاد "الذاتي" اليساري الوحي، لتقول: "طز في أميركا وبعقوباتها ودولاراتها...! نحن نستطيع أن نعيش وأن نزدهر من دون جميلها"، إلى ما يشبهه من أقوال. ولكن هذه النصوص ليست من النوع الجذاب. إنها صعبة، وفيها الكثير من الفصاحة التنظيرية. فكان مقال كتبه أحد اليساريين الممانعين. مقال مبسَّط ومباشر، بعيد عن فذْلكات زملائه العويصة.

كيف يمكن لعاقلٍ، كاتباً كان أو مواطناً بسيطاً، أن يتعامى عن المصائب الواقعة فوق رؤوس اللبنانيين، يصفها بـ"النعمة التي ما بعدها نعمة"؟

ماذا يقول كاتبنا؟ قبل "الأزمة"، كان اللبنانيون "طفيْليين"، يعتمدون "نمطاً استهلاكياً لا يستحقّونه"، مبهورين بمنتجات "المستعمرين"، لا يبذلون أي جهد، "إلا جهد التسوّق". وجاءت "الأزمة" لتحلّ مثل "النعمة" الاقتصادية على اللبنانيين، فصاروا "يتّكلون على أنفسهم"، ويشترون منتجاتٍ محلية، ويزرعون حقولهم، ويشيّدون المصانع تلبية لحاجات سوق "غير استهلاكي". وإذا كانت اللَّحمة قد أصبحت في غير متناولهم، فهذه "نعمةٌ" أخرى ("النعمة" لازمة مكرّرة)، فاللَّحمة "مضرّة بالصحّة"، وهذه "فرصة لنظام الطعام النباتي". كذلك السجائر ارتفع سعرها، فصار اللبنانيون يعتمدون التبغ الخام، أو السجائر المحلية، "الخالية من الكيميائيات"... غمزاً في قناة السجائر الأجنبية المغْشوشة. وغلاء الوقود، "نعمة" أيضاً وأيضاً، يوفّر سعرها أصحاب السيارات بتنظيم المشاوير "المشتركة"، فتخلو الشوارع من هذه السيارات ويهدأ الازدحام. .. لا كهرباء؟ وجد اللبنانيون حلاً عبقرياً: ركّبوا الطاقة الشمسية على سطوحهم، وصاروا ينعمون بها. الثياب الجديدة؟ أو حتى البالَة (الثياب المستعملة) المستورَدة؟ والاثنان حلّقت أسعارهما؟ بسيطة، هناك بالَة لبنانية تزدهر وتدرّ على بائعيها ومشتريها "نعَماً" جديدة.

بعد كل هذه الإبداعات اللبنانية، يستنتج الكاتب أن "الأزمة الحالية فرصة تغيير النظام المتحلّل الذي يسمّم جسم الوطن منذ عقود". ولا حاجة هنا الى الدخول في تفاصيل كل "مبادرة خلاقة"، وعدم مطابقتها مع أبسط اليوميات اللبنانية التي لا تعرف قاعاً لسقوطها. إنما السؤال هو: كيف يمكن لعاقلٍ، كاتباً كان أو مواطناً بسيطاً، أن يتعامى عن المصائب الواقعة فوق رؤوس اللبنانيين، يصفها بـ"النعمة التي ما بعدها نعمة"، يمجّد "مبادرات" ويضيف إليها "اقتراحات"، على هذه الدرجة من السذاجة والاعتباط؟

كثيرون، ممن نشأوا على "بالروح بالدم نفديك يا..." مصرّون على تصديقها، معتمدين بذلك على "انتصارات" حزب الله في معركته ضد الشّر الأميركي

إنها واحدة من الهدايا الأيديولوجية التي يقدمها اليساري الممانع إلى حزب الله، بنفحته الشعبوية المتبقّية، و"حبّه" الفقير والفقراء، وأولويته الشعورية، "الحرب على أميركا".. هدية يقدّرها حزب الله، يحتاج إليها في هذه الأيام الكالحة، وسيبقيها في أثاثه الفكري زمناً طويلاً. لأن ما يسمّيها "أزمة"، ليست على وشك الحلّ. وبذلك، يحمي كاتبنا "الخط السياسي" للحزب، يملأه بمعانٍ، يتصوّر أنها قوية مفْحِمة، فتندرج الفكرة في صميم أيديولوجية الحزب، وتتعشّق مع تفرّعاتها، وخيوطها، ليقترب الجميع من "الفكرة المتكاملة"، فتتوثق هذه الأخيرة، وتعلن عن نفسها حقيقة ساطعة، غير قابلة للتزوير أو الاختراق. وتدوم الأزمة، لأنها نعْمة حلّت على من يقاوم أميركا.

وسرّ رواج هذه الأيديولوجيا أنها غائمة، غير ممْسوكة، تقدّم نفسها على أنها الحقيقة. وكثيرون، ممن نشأوا على "بالروح بالدم نفديك يا..." مصرّون على تصديقها، معتمدين بذلك على "انتصارات" الحزب في معركته ضد الشّر الأميركي. وآخر دلائلها زيارة الرئيس الإيراني، إبراهيم رئيسي، للأسد، والاحتضان العربي له. انتصاران يتوّجان مسيرة الانتصارات السابقة، والثابتة، ويمهّدان لقلب وجه لبنان، وتغيير دوره، وقتل أهله، وكل بنيانه القديم، واستبداله بنمط اقتصادي "ثوري"، من وحي اليسار الممانع.

بعد ثلاث سنوات على انتهاء الحرب، أي قبل 20 سنة، قدّم زياد الرحباني مسرحية في قصر البيكاديلي، عنوانها "بخصوص الكرامة والشعب العنيد"، مكوَّنة من مشهدَين: في الأول، يعرض الرحباني أوصاف الشعب اللبناني "العنيد" بفكاهةٍ سوداء تتجاوز السخرية، عبر لقطاتٍ سريعةٍ نافذة: إنه شعب محتال، نصّاب، كذوب، اتّكالي، مولَع بالمال والمظاهر. وفي المشهد الثاني والأخير من المسرحية، نرى زلزالاً يضرب اللبنانيين، ما يعيدهم إلى العصر البدائي، الحجري. ضائعون، هيئتهم مزْرية، شعرهم فالت منبوش، يرتدون جلود الحيوانات، سلاحهم الوحيد عصا مقطوعة من أقرب شجرة. وصرخة أخيرة لأحدهم: "يا أرض إنْشَقي وإبْلعينا!" (ابْتلعينا). وهذه جملة تعبّر عن الحياء. لا عن الجوع ولا عطش، ولا عن قبح أو اتّساخ. هكذا ينهي زياد الرحباني مسرحيته: إن عيناً تنظر إلى أولئك اللبنانيين تُشعِرهم بالعار، بالعيب. ولا يوضح لنا: لماذا نستحي من أنفسنا؟ وما إصابتنا إلا زلزال؟ لأننا لم نتعلّم؟ أو لم نفهم؟ أو لم نقدر؟ أو لم نقرأ؟ أو لم نرَ ما تصنعه أيادينا بأنفسنا؟ من أننا أشْبعنا أنفسنا غناءً وطرباً في أثناء رحلتنا نحو العصر الحجري؟