في فشل تجارب الانتقال الديمقراطي العربية

في فشل تجارب الانتقال الديمقراطي العربية

10 ابريل 2023
+ الخط -

يتبيّن في مختلف انتكاسات تجارب الانتقال الديمقراطي في العالم العربي دوما أن الغرب لا يكترث بهزائم "الديمقراطيين العرب". لا تعني له هذه التجارب الكثير، بل ربما يراهن بعض من هذا الغرب على فشلها حتى يظل يزايد باستمرار علينا ويذكّرنا بأننا شعوب غير قابلة للديمقراطية أصلا. علينا ألا نغفل جملة الأطروحات التي تراكمت قرونا، ورسّخت هذا الموقف. ليس من اليسير أن نعثر على شواهد وأدلة دامغة تؤيده. لا يمكن للاستشراق المعادي أصلا للعرب أن يكون الوحيد مصدر هذه الأمنيات الدفينة فحسب، بل نعثر أيضا على ثلة من علماء الاجتماع والسياسة، وحتى الفلسفة، الأكثر رصانة وموضوعية، على غرار ماكس فيبر وكارل ماركس وغيرهما، ممن أكّدوا هذا الاستثناء. لم ير الأخير من الجزائر المستعمرَة حين زارها سوى صورة ذاك الرجل الذي يركب الحمار مائلا. تمنح تجارب الانتقال الديمقراطي الفاشلة كل هؤلاء حجّة مخبرية راهنة حية على صحة هذه المزاعم.
حين انتصرت الثورات العربية في بداية العشرية المنقضية، ظن الجميع أن مقولة الاستعصاء الديمقراطي تهاوت وتهافت صيتها الذي ران على حقل الدراسات السياسة طويلا. ولكن، ها إن فشل هذه التجارب ولم يمض عليها سوى عقد أو أقلّ يعيد شرعية ما إلى تلك الادّعاءات. قد لا يبدو هذا التفسير الثقافوي متماسكا، والحال أن هناك فرضيات أخرى تبدو أجدر بتفسير هذا الانتكاس الخطير، كالتي تعلقت بالمشاركة السياسية، صعوبات التوافق، ضعف البنى الحزبية، وضمور المجال العمومي، فضلا عن موقف القوى الصلبة ومعضلة الرخاء الاجتماعي والاقتصادي والتشكيلة الاجتماعية وتركيبة النخب... إلخ، ولكن لا أحد مستعدٌّ لهذا التريّث.

قضايا الانتقال الديمقراطي على طاولات صنّاع القرارات تفاصيل صغيرة تزيد من صداعهم لا غير

تمنحنا هذه الفرضيات نوعا من العزاء الفكري، حتى لا تلفنا نظريات الحتمية الثقافية المغلقة التي تؤبد استبدادنا الشرقي. ويا للمفارقة، بدا بعضهم يدعو إليه اليوم حلّا أخيرا لفشل مطلب الديمقراطية، بما فتحه من فوضى الدولة وضعفها. والأكيد أن قلة من الباحثين من يمنح نفسه الصبر والتريث والدقّة في متابعة ما يجري في عالمنا العربي، وتحديدا حينما يتعلق الأمر بالديمقراطية المتعثرة، غير أن السياسيين وصنّاع القرار غير معنيين أصلا بكل هذه الرصانة البطيئة، وقد سارعوا إلى طيّ صفحة الماضي، وأبدى بعضٌ منهم تحسّرا على الوقت الضائع الذي صرفه في إسناد تجارب الانتقال الديمقراطي والحماس لها إلى حد التصفيق والوقوف إجلالا في برلمانات عديدة في العالم.
هذا العقل السياسي الغربي أكثر براغماتية. لذلك لم يُدم النظر في ما يمكن أن يفعله تجاهنا، على غرار ما قام به تجاه تجارب أخرى عديدة، على غرار تجارب الدمقراطية في أوروبا الشرقية وحتى في جهات عديدة من أوروبا الغربية خلال ثمانينيات القرن الماضي وبعده. قد تكون موجتنا الديمقراطية غير محظوظة بالمرّة، وقد رافقها منذ اندلاعاتها المتأخرة ظهور شعبويات يمينية كارهة للديمقراطية، وصعود اليمين الفاشي في أكثر من بلد غربي، وارتدادات الحرب على الإرهاب في أكثر من مكان، وأخيرا اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية التي أعادت حالة الاستقطاب الدولي الحادّ.
في كل هذه المشاغل، ستبدو قضايا الانتقال الديمقراطي على طاولات صنّاع القرارات تفاصيل صغيرة تزيد من صداعهم لا غير. والأرجح أن المواقف الصادرة خلال الأسابيع الأخيرة عن الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة بشأن ما يحدث في تونس مثلا يبرهن مرّة أخرى أننا لسنا قطب العالم، وأن فشل ديمقراطية ناشئة لا يعني، كما ذكر سابقا، لهؤلاء خسارة شيء مهم. كل ما يصدر عنهم مجرّد جبر خواطر وتبرئة ذمّة ورفع ملامات. وحين يجدّ الجدّ لاعتبارات عديدة، لا يولي هؤلاء من القضايا سوى قضية الاستقرار السياسي والأمني. لا ننسى أن عالم النفس الأميركي أبراهام مازلو، الذي سادت أطروحاته وذاع صيته، قد شكل لهؤلاء جميعا هرما ثابتا للحاجات الإنسانية الأكثر ضرورة وإلحاحا، ولعل أهمها: الحاجات الأساسية أو القاعدية، وهي تحديدا الحاجة إلى الغذاء والأمن، ما عدا ذلك كلها كماليات ونوافل لا يمكن أن تدرك مرتبة الفريضة.

حين يعتقد الغرب أن الديمقراطية قد تهدّد مصالحه وسياساته واستقراره، فإنه مستعدٌّ لدفنها والتآمر عليها

سارعت مسؤولة الخارجية في الاتحاد الأوروبي، كاترين أشتون، إلى تكفين الانتقال الديمقراطي، وهو ما زال يحتضر وعيناه مفتوحتان، حين التقت الرئيس المصري المرحوم محمد مرسي، ثم طارت إلى باريس وقابلت هناك وزير الخارجية السعودي، المرحوم سعود الفيصل، لإعلان إنهاء تلك التجربة. البقية تفاصيل إخراج دامية. حين يعتقد الغرب أن الديمقراطية قد تهدّد مصالحه وسياساته واستقراره، فإنه مستعدٌّ لدفنها والتآمر عليها.
ينظر ساسة الغرب حاليا إلى تونس بلدا قد ينهار اقتصاديا. ولذلك عليهم أن يضخّوا مزيدا من المساعدات من أجل إنقاذه، حتى لا يقع مجدّدا بين أيدي الإخوان المسلمين، على حد قول وزير الخارجية الإيطالي أنطونيو تاجاني، وهو إذ يقول ذلك، فإنه يريد لهذا البلد أن يظل رقعة حاسمة وصلبة في مقاومة الهجرة السرّية، الخطر الاستراتيجي الدائم لأوروبا. 
ما حكّ جلدَك إلا ظفرك... لا نكرّر هذا القول انتصارا لروح القبيلة وأشكال التضامن البدائية، ولا أيضا لإذكاء نزعة انفصالية موهومة لعالمٍ تتشابك فيه الأمم والمصالح والتبادلات والقيم، وحتى الأشواق، بل للتأكيد مرة أخرى أن معارك استعادة الديمقراطية تظلّ داخلية، تحدّيها الأكبر مرتهنٌ بالإجابة عن السؤال الحاسم: كيف يمكن للنخب المعنية بالديمقراطية أن تتحد من أجل وقف هذه المسارات الشنيعة التي تؤبد مكوثنا في مربّع الاستعصاء الديمقراطي مجدّدا. سيبدأ الرأي العام الداخلي في الانخراط التدريجي في هذه المعركة المدنية والسلمية.

7962F3C9-47B8-46B1-8426-3C863C4118CC
المهدي مبروك

وزير الثقافة التونسي عامي 2012 و2013. مواليد 1963. أستاذ جامعي، ألف كتباً، ونشر مقالات بالعربية والفرنسية. ناشط سياسي ونقابي وحقوقي. كان عضواً في الهيئة العليا لتحقيق أَهداف الثورة والعدالة الانتقالية والانتقال الديموقراطي.