في سقَطات "العدالة والتنمية" المغربي

في سقَطات "العدالة والتنمية" المغربي

02 نوفمبر 2022
+ الخط -

أنهى رئيس الوزراء المغربي الأسبق، عبد الإله بنكيران، متم الشهر الماضي (أكتوبر/ تشرين الأول)، عامه الأول في قيادة حزب العدالة والتنمية، بعد رجوع اضطراري؛ بسبب تقهقر الحزب في الانتخابات التشريعية في سبتمبر/ أيلول 2021، حيث خسر 112 مقعدا في مجلس النواب، من دون أن ينجح في فك شيفرة العودة إلى الواجهة. حاول الرجل جاهدا استعادة شعبيته، والعودة إلى الأضواء بأكثر من طريقة، إلى درجة الخروج بكلماتٍ توجيهية إلى الأعضاء وخطابات مباشرة إلى المغاربة، على مواقع التواصل الاجتماعي، بمناسبة وبدونها أحيانا، لكن ذلك لم يأت بعائد ولا نتيجة.

كانت سقطات الحزب خلال تجربته الحكومية، التي امتدت عقدا (2011 -2021)، أكبر من أن تُنسى بمجرد استبدال القيادة أو تغيير الموقع. خصوصا، وأن تداعيات بعض هذه الأخطاء لا تزال تلاحق أغلبية المغاربة في معيشهم اليومي. تعريف السياسة بأنها فن الممكن يسمح بإيجاد تبرير لقائمة من الأخطاء المرتبطة بالتدبير، مثل: قرار تحرير أسعار المحروقات وخطة إصلاح أنظمة التقاعد... وغيرها من قرارات حكومية غير موفقة، من باب سوء التقدير السياسي للحزب حيال هذا الأمر أو تلك المسألة.

ولكن الوقوع في الخطايا، بسبب النكوص عن المبادئ وتغيير القناعات يبقى سقطات سياسية غير قابلة للتبرير، ولا تقبل توصيفاً آخر عدا عن أنها براغماتية وانتهازية سياسية، لأنها تمُس أسس الحزب وثوابته، فتبنّي حكومة الإسلاميين، على سبيل المثال، قانون فرنسة التعليم في المدرسة العمومية، يضرب في الصميم كل دفاع عن التعريب وعن الهوية المغربية. وكان توقيع رئيس الحكومة، سعد الدين العثماني على اتفاقية تطبيع المغرب مع إسرائيل بمثابة ضربة قاضية، نسفت إرثا ضخماً من النضال، راكمه الإسلاميون منذ بروزهم في المشهد السياسي المغربي، لصالح القضية الفلسطينية التي حظيت بمكانة مركزية في خطابهم.

كانت سقطات حزب العدالة خلال تجربته الحكومية، التي امتدت عقدا (2011 -2021)، أكبر من أن تُنسى بمجرد استبدال القيادة أو تغيير الموقع

ساق الإسلاميون أكثر من دافع، واستعانوا بما تجود به أدبيات التراث الإسلامي من نصوص ووقائع لتبرير تناقضاتهم؛ تارّة بأحكام الضرورة والإكراه، وتارّة أخرى بدعوى مصلحة الأمة وخدمة الوطن. كل هذه المساعي رغبة في رفع الحرج عن ذواتهم أولاً، ثم عن قواعدهم وأنصارهم، ممن وجدوا أنفسهم عاجزين عن استيعاب سرعة ذوبان الحزب في ماكينة السلطة، وتفكّك مرجعيته على أعتاب المخزن. وقد نجحت القيادة الجديدة في تحقيق ذلك نسبياً، على الأقل في صفوف التنظيم الإسلامي. ولكن سقوط قيادي في الحزب الإسلامي أعاد تلك الجهود والمساعي إلى المربع الأول، والمرتبط بواقعة اشتغال القيادي جامع المعتصم؛ مدير ديوان رئيس الحكومة سابقا، ونائب الأمين العام لحزب العدالة والتنمية حاليا، في رئاسة الحكومة لدى عزيز أخنوش، الخصم السياسي الأول للحزب، والمسؤول عن العرقلة السياسية (البلوكاج) التي حالت دون تشكيل بنكيران حكومة 2016، تجاوز هذا الأمر نطاق السياسة نحو الأخلاق، فأن يشتغل الرجل الثاني في التنظيم الإسلامي، بصفته موظفا عموما (منصب إداري) يبقى نسبيا أمرا مستساغا، لكونه عملا وظيفيا لا علاقة له بالانتماء السياسي. أما تكليفه بمهمة في ديوان رئيس الحكومة (منصب سياسي)، فيطرح أكثر من علامة استفهام عن السياق والدواعي والمبررات؟

بدا الأمين العام عبد الإله بنكيران شبه عاجز عن تقديم تفسير مقنع للأمر الذي ظل طي الكتمان، أزيد من سنة، حتى عن أعضاء الحزب الإسلامي، ممن علموا بالخبر، مثل بقية المغاربة، في وسائل الإعلام. ففي البداية، خرج ببيان توضيحي للحزب بشأن الواقعة، تلته خطابات مباشرة، عبر صفحته بمواقع التواصل الاجتماعي، تفاعلا مع تداعيات هذه الفضيحة داخل الحزب، ولدى الرأي العام المغربي. جعل الرجل يقول الشيء ونقيضه، فرغم اختيار حزبه التموقع في المعارضة إلا أنه (والكلام هنا لبنكيران) "لا يعتقد بالمعارضة والموالاة داخل دولة واحدة"؟!، واعتبر أن نائبه موظف عمومي يساعد في أي أمر به مصلحة الوطن، قبل أن يعود ليُسقط عنه الصفة الوظيفية، مؤكّدا أنه مكلّف بمهمة.

الوقوع في الخطايا، بسبب النكوص عن المبادئ وتغيير القناعات يبقى سقطات سياسية غير قابلة للتبرير

يا ترى، أي مهمة تلك التي قد يسندها رجل الأعمال عزيز أخنوش إلى القيادي الثاني في صفوف الإسلاميين؟ وهل اختيار المعتصم دون غيره كان بناءً على كفاءته وخبرته، كما يردّد حزب العدالة والتنمية؟ ثم ما نوع الدراية والدربة الحاضرتين وطبيعتهما عند القيادي الإسلامي، والمفتقدة في أعضاء أحزاب الأغلبية الثلاثة وعضواتها، وأيضا في التكنوقراط الذين يشكلون حاليا الحزب الأغلبي في حكومة أخنوش؟ وكيف يستقيم لدى الرجل أن يكون معارضا سياسات الحكومة ومنتقدا لها، من موقعه قياديا في حزب معارض، وفي الوقت ذاته، مدافعا عن الملفات الكبرى في رئاسة الحكومة؟

يصعب تقديم أجوبة مقنعة عن هذه الأسئلة، لا سيما من قيادة "العدالة والتنمية"، ما دفع المعني بالأمر إلى المسارعة لتقديم استقالته من الأمانة العامة للحزب، من باب الاعتراف بالخطأ، والإقرار بتحمّل المسؤولية. يبقى هذا القرار بمثابة محاولة لتسريع طي فضيحة بجلالها، إذ لا يُعقل أن يتولّى الرجل مهام متضاربة في الآن ذاته؛ مكلف بمهمة في الديوان الحكومي، ومساعد الأمين العام لحزبٍ معارض، حتى قيل إنه ظل طوال الأسبوع مع الحكومة، قبل أن ينقلب آواخره لينضم إلى فصيل المعارضين.

يصر حزب العدالة والتنمية على تسويق نفسه رقماً مهماً في الشأن الداخلي المغربي، فيما تصرّ السلطة على مواصلة جولات إنهاكه

يصرّ حزب العدالة والتنمية على تسويق نفسه رقما مهما في الشأن الداخلي المغربي، في المقابل تصرّ السلطة على مواصلة جولات إنهاك الحزب، حتى وهو بعيد عن مواقع المسؤولية والتسيير، وكأنها تسعى إلى الإجهاز النهائي على الحزب، لا سيما الجانب الأخلاقي، قصد ضمان نهاية أي أمل في الإحياء مستقبلا. مسعى لا يعيره إخوان بنكيران كثير اهتمام، معتقدين أن المخزن مقبلٌ عليهم حبا في سواد أعينهم، ما جعلهم يتلقفون الطعوم واحدا تلو الآخر؛ فبعد منح عبد الإله بنكيران، صاحب خطّة مزيد من الاقتطاع لإصلاح أنظمة التقاعد بالمغرب، مشاعا استثنائيا قدره ستة آلاف دولار، حان دور جامع المعتصم، اليد اليمنى للأمين العام، بإخراج معلومة عمرها سنة!

إلحاح الإسلاميين على معاكسة قواعد دار المخزن، برغبتهم في مصير آخر غير الذي لقيته أحزاب سياسية سبقتهم إلى مواقع المسؤولية والتدبير، ولّد لدى النظام رغبة جامحة في الدفع بهم نحو خطايا كبرى تفقدهم أي مشروعيةٍ أو مصداقية، فالعادة تقتضي أن يغادر الحزب السياسي معترك المسؤولية وشراك التدبير نحو صفوف المعارضة، قصد ترتيب البيت الداخلي والقيام بنقد ذاتي، يقود نحو مراجعة الأدبيات السياسية المؤطّرة للحزب؛ مذهبيا وتنظيميا وسياسيا، في أفق بلورة أطروحة سياسية جديدة، تتوافق نخبها مع مضمونها ورهاناتها. لا تروق هذه القاعدة، على ما يبدو، لحزب العدالة والتنمية المغربي الذي تصرّ قيادته على "التحرّش" بالمخزن، متناسية أنها تقتات من أفضاله ونعم موائده.

E5D36E63-7686-438C-8E11-321C2217A9C8
E5D36E63-7686-438C-8E11-321C2217A9C8
محمد طيفوري

كاتب وباحث مغربي في كلية الحقوق في جامعة محمد الخامس في الرباط. عضو مؤسس ومشارك في مراكز بحثية عربية. مؤلف كتاب "عبد الوهاب المسيري وتفكيك الصهيونية" و "أعلام في الذاكرة: ديوان الحرية وإيوان الكرامة". نشر دراسات في مجلات عربية محكمة.

محمد طيفوري