في بحث مصر عن اصطفاف بعد الاتفاق السعودي الإيراني

في بحث مصر عن اصطفاف بعد الاتفاق السعودي الإيراني

18 مارس 2023
+ الخط -

لطالما شكّل الخليج العربي، بمركزه السعودي، فيتو محكماً ضد أية محاولة مصرية لتطوير العلاقات الثنائية مع إيران. ولطالما كانت مصر تؤكّد، بشكل روتيني، في ثابت من ثوابت السياسة الخارجية المصرية، أن أمن الخليج هو جزء من الأمن القومي لمصر. مع إعلان الصين عن التوصل إلى اتفاقٍ بين السعودية وإيران في 10 مارس/ آذار الجاري، يقضي باستئناف العلاقات وفتح السفارتين والممثليات واحترام سيادة الدول وعدم التدخّل في شؤونها وترتيب اجتماع لوزيري الخارجية وتبادل السفراء وتعزيز العلاقات وتفعيل اتفاقية التعاون الأمني والاتفاقية العامة للتعاون، ماذا يعنيه إذن توافق سعودي إيراني في اللحظة الراهنة على مستوى السياسة الخارجية المصرية؟ هذا سؤال هذه المقالة، وفي اللحظة الراهنة بالذات، حيث يوجد تراشق إعلامي قوي بين إعلام السامسونغ في مصر ومحللين وإعلاميين في السعودية وبعض دول الخليج، على خلفية عدم ضخّ هذه الدول أموالاً كافية لتعويم النظام في مصر إلى أن يشاء الله من دون سقف زمني، ومن دون أية خطة واضحة للإنفاق أو الإصلاح الاقتصادي الحقيقي.

تأتي هذه التطورات أيضاً في ظرفٍ يصطفّ فيه النظام المصري مع الطرف الإماراتي في صراعٍ مبطّن مع المحور السعودي الذي يبدو أنه يعيد رسم مصالحه وشبكة علاقاته وتموضعه في الإقليم والعالم منذ إطلاقه رؤية السعودية 2030، وبعد سنوات من الخروج من صراعات قوية مع إيران بصيغة لا غالب ولا مغلوب، وما ترتب عليها من اقتضاء موضوعي للسير في مساراتٍ حواريةٍ تخدم مصالح الطرفين وربما تحقق بشكل عرضي مصالح شعوب أخرى في المنطقة. كذلك تتزامن مع موقف إماراتي غامض وممتعض نوعاً ما من الاتفاق السعودي الإيراني الذي يسير عكس خطط محمد بن زايد التي سعت مراراً إلى أن تكون وسيطاً لعملية تشكيل تحالف سني لمواجهة إيران وضم إسرائيل إليه، باعتبار الإمارات تروج "الديانة الإبراهيمية الجديدة" رمزاً للسلام ولدورها الصاعد في المنطقة، والتي اعتبرها الكتّاب الغربيون وبعض العرب إسبرطة الجديدة بناء على هذه الأفكار حول الأديان والأيديولوجيا والسياسات الخارجية. سياسة وُجّهت، بشكل كبير، في العقد الماضي، ضد حركات الإسلام السياسي، سنية كانت أو شيعية، بل وسعت إلى تقديم نسختها من الإسلام للغرب والولايات المتحدة، لكي تعيد تقديم نفسها قائداً للمنطقة، منفتحاً عن القوى التقليدية مصر أو السعودية، وتمدّدت في الإقليم والعالم على خلفية هذه الادعاءات، والتي عزّزتها بالتوسّع في فكرة مجمعات الأديان الثلاثة، بل ومعابد الهندوس وغيرها من السياسات.

لا تزال الإمارات تتوسّع في الاستحواذ على كل الأصول والقطاعات التي يمكن التوسّع فيها في مصر

تظل مصر  عبد الفتاح السيسي تائهة في نظام إقليمي ودولي شديد التغير، فلا هي تستطيع الاستغناء عن المؤسّسات المالية الدولية، ولا تستطيع العيش من دون استجداء الخليج وقواه والاستجابة لمشروطياتها أينما كانت، وهي لا تستطيع مجاراة فخّ الديون الصينية التي، وإنْ قلّت فيها المشروطيات السياسية الآنية، أو اختفت حتى، فإنها لا تزال شديدة القسوة اقتصادياً وسياسياً على المدى البعيد، ولا تزال الدولة ومؤسّساتها، وبالذات الجيش، مرتبطة بنيوياً بالمنظومة الغربية، والأميركية تحديداً، بمعونات ومنح واتفاقات. ومن المبكّر جداً النظر إلى الحليف الصيني أو الروسي باعتبارهما بديلا واقعيا للغرب بالنسبة إلى مصر التي تظلّ حائرة إلى أيّ المعسكرين في المنطقة تنضم وتكون تابعة له، للمعسكر السعودي الذي سلّمته جزيرتي تيران وصنافير مقابل بعض الدعم المالي للنظام المصري، وهو المال الذي لم يكف لسد الفجوة التمويلية، أم تنضم إلى المعسكر الإماراتي الذي تُعدّ فيه الإمارات المستثمر الأكبر في مصر منذ سنوات، والدائن الأكبر لها من خارج مؤسّسات التمويل الجماعية، كصندوق النقد والبنك الأفريقي والبنك الإسلامي وغيرها، بل والمستحوذ الأكبر على الأصول المصرية.

لا تزال الإمارات تتوسّع في الاستحواذ على كل الأصول والقطاعات التي يمكن التوسّع فيها من الصحة وصناعة الأدوية للتعليم الدولي للزراعة وصناعة الأسمدة، وصولاً إلى الموانئ والأرصفة، حتى إن انفتاح الشهية الإماراتية للاستحواذ لهذا الحد أوجد منافسة خليجية على هذه القطاعات. ولعل انزعاج السعودية أخيراً، في جزء منه، يعود إلى أنها لا تجد الكثير لتستحوذ عليه في مصر، بعد أن جرى تسييل أغلب قطاعها العام وتخريد أغلب مصانعها وإخراجها عن الخدمة، بالتوازي مع عملية إزاحتها وإخراجها عن قيادة المنطقة، والتي انسحبت من كثيرٍ من ملفاتها بإرادتها، رغم ما تُحدثه بعض دوائرها الرسمية وإعلامها من ضجيج.

ويظل نموذج دبي العمراني طاغياً على تفكير المسؤولين المصريين، ولا يفتأون يتغنون بنموذج العمارة وتخطيط المدن الإماراتية ونموذج الصناديق السيادية والنموذج الشركاتي للإدارة، حتى إنهم قد جعلوا للعاصمة الإدارية الجديدة مجلس إدارة بدلاً من مجلس مدينة، بل وابتدعوا قصة الصندوق السيادي، انبهاراً بالصناديق السيادية الإماراتية.

هل تتحرّر مصر السيسي من الفيتو الخليجي، وتحسّن علاقتها مع إيران، أو تلوح بهذا ولو من باب المناورة؟

أخيراً، أصبحت مصر السيسي لا تخطو خطوة من دون الحليف الاستراتيجي الإماراتي الحاضر في كل مناسبة من افتتاح فندق في العلمين إلى المواكب الفرعونية المختلفة التي يُراد لها إعادة رسم هوية لمصر، إلى القواعد العسكرية، سواء في برنيس على البحر الأحمر الذي أصبحت الإمارات جزءاً حيوياً من أمنه بقواعدها في اليمن أو على الضفة الأخرى بتحرّكاتها في القرن الإفريقي، أو في سيدي براني على الحدود الغربية، حيث تلعب الإمارات دوراً محورياً في دعم محور الشرق الليبي بقيادة الجنرال خليفة حفتر.

لا تكمن المعضلة في الإمارات وحدها، وإنما في الحلفاء الاستراتيجيين خلفها، وأهمهم الولايات المتحدة وإسرائيل التي تتوغل بشكل كبير في المنطقة بعد صفقة القرن، التي وإن وقفت الشعوب العربية ضدها بشدة، إلا أنها تسير بخطى حثيثة رسمياً، ولا تزال تتوسع في التطبيع مع دول المنطقة إلى الحد الذي وصلنا فيه إلى زيارة وزير الخارجية الإسرائيلي إيلي كوهين الخرطوم التي كانت عاصمة اللاءات الثلاث، والتي أصبحت السعودية والإمارات طرفاً في رعاية اتفاقها الإطاري الأخير، بينما غابت مصر عن أية آلية أفريقية أو أممية للحل السياسي في دولة جوار مباشر لها، وفنائها الخلفي وعمقها الاستراتيجي في المياه والغذاء، فضلاً عن الجغرافيا والتاريخ.

فرضت دول في الخليج، وفي مقدّمها الإمارات، فيتو على مصر يمنعها من إجراء أية عملية تحسين للعلاقة مع قطر ومع تركيا، وبعد أن بدأت حدّة هذا الفيتو تنخفض، وحسّنت دول الخليج علاقتها بالدولتين، عادت مصر إلى تحسين علاقتها بهما. ومن هنا، علينا أخيراً أن نتساءل: هل تتحرّر مصر السيسي من هذا الفيتو الخليجي، وتحسّن علاقتها مع إيران، أو تلوح بهذا ولو من باب المناورة وموازنة سياستها الخارجية تابعاً لديه هامش حركة ولو قليلة في النظام الإقليمي، ولا نقول الدولي؟ علينا أن نتساءل أيضاً عما إذا كانت تحرّكات هذا الحليف الاستراتيجي تصبّ في مصلحة الأمن القومي العربي والمصري، أم أنها تعمل ضده في ملفاتٍ عديدة؟ وهل تعمل باتجاه الشراكة في قيادة إقليم مضطرب لن تستطع قيادته بمفردها، بل ومحاولتها للقيادة أدّت إلى كوارث، أم أنها تعمل باتجاه الإزاحة والإضعاف والإرباك لكل منافسيها الإقليميين؟