فلسطيني بلا فلسطين

فلسطيني بلا فلسطين

30 مايو 2021

(كمال بلاطة)

+ الخط -

متى يفهم جو بايدن، وأضرابه من زعماء الغرب، أنّ الحرب بالنسبة للفلسطيني هي حربه الأخيرة دوماً. حين يقرر خوضها يحرق سفنه كلها، ليس لأنّه "انتحاري" كما يظنون، بل لأنّ الاندفاع عنده بديلٌ موضوعي للعودة نفسها، فهو يرى في الذهاب إلى الحرب عودة إلى الأرض التي فقدها. وعندما أطلق المقاومون في غزّة أول صاروخ لم يكونوا ينتظرون أيّ وساطاتٍ لإنهاء الحرب، فهم كانوا على استعداد لدفع الثمن كاملاً غير منقوص، ولا حاجة لهم بمن يقرّعهم أو يضع شروطاً لإعادة إعمار ما دمّره العدوان، كما فعل بايدن في تصريحاته أخيراً. واشترط ألا تمرّ مساعدات الإعمار عبر "حماس" التي أعاد التذكير، للمرة الألف، بأنّها تنظيم "إرهابي" وفق قوائم التصنيف الأميركية، متجاهلاً أنّها غدت أكبر فصيل فلسطيني، ومحرّكاً رئيسياً للمقاومة يكاد يضاهي الفصائل الأخرى مجتمعة من حيث الفعل، فضلاً عن امتدادها الجماهيري الواسع، وسيطرتها على مفاصل الحياة العامة في غزّة. ولا حاجة للقول إنّ بايدن استثنى فصائل المقاومة الأخرى كلّها كتحصيل حاصل، لأنّه يريد الفصل بين الفلسطيني وروحه المقاومة، بين الفلسطيني وبندقيته، أو بين الفلسطيني وأرضه. هو يريد الفلسطيني بلا فلسطين، كائناً مجرّداً مشرداً مسكيناً فاقداً حيّزه الوطني. والأهم ألا تقترن المساعدات بأسبابها الناشئة عن العدوان الصهيوني، وكأنّ الدمار الذي لحق بغزّة كان نتيجة إعصار أو كارثة طبيعية. صحيحٌ أنّه لم يقل ذلك على نحو مباشر، لكن يمكن استبطانه من تصريحاتٍ غربية عديدة تحدثت عن "المساعدات"، فكلّها كانت تبدأ بلازمة "حق إسرائيل بالدفاع عن نفسها"؛ بغرض الفصل بين الكارثة والسبب.

أخطر ما ورد على لسان بايدن "الديمقراطيّ" هو الولاية العامة التي محضها فخامته بنفسه للرئيس محمود عباس قائداً للشعب الفلسطيني، وأمره الذي لا يردّ لهذا الشعب أن يعترف بعباس قائداً... فقد طلب ذلك حرفيّاً وبلا مواربة، في سابقة غريبة من نوعها، وكأنّ الشعب الفلسطيني قاصرٌ لا يتقن اختيار قادته. كان في حديثه نوع من الفرض، وكأنّ بايدن ناخبٌ فلسطينيٌّ يروّج لرئيسٍ بعينه. لكنّ مثل هذا الانحياز سيكون مفهوماً إن عرفنا أنّ قطاعاتٍ واسعة من الشعب الفلسطيني لم تعد تعترف بولاية عبّاس وسلطته عليها، التي غدت وكيلاً للمحتلّ في قمع المقاومة، وأوصلت الشعب إلى حضيض اليأس، وكأنّ دعوة الاعتراف جاءت محاولةً لإنقاذ سلطةٍ تحتضر فعليّاً. لم يفهم بايدن أنّ عبّاس غدا جزءاً من المشكلة وليس الحلّ، ولئن كان معجباً بعبّاس إلى هذا الحدّ، فحريّ به أن يفرضه رئيساً على الشعب الأميركي. كما أنّ من غير المفهوم أن يبلغ التناقض السياسي عند زعماء الغرب أن يكونوا ديمقراطيّين في بلادهم، ومستبدًّين في بلاد الآخرين.

أما الأقنوم الثالث في خطاب بايدن، فتطبيعيّ موجّه هذه المرّة إلى الشعوب العربية التي اختزلها بالمصطلح الغربيّ المريب "شعوب الشرق الأوسط"، فقد أعلن فخامته أن "لا سلام في منطقة الشرق الأوسط من دون اعتراف شعوب المنطقة بإسرائيل" بمعنى أنّه يقرن السلام بالتطبيع، لا باستعادة الحقوق، وفي ذلك أيضاً نوع من الفرض والوصاية على الشعوب العربية كلّها، وتشجيعٌ لسلوك الطريق نفسه الذي اختارته دول عربية بالتطبيع مع إسرائيل. وفي ذلك أيضاً محاولة لحفظ ماء وجه تلك الدول التي وجدت نفسها في موقفٍ حرج خلال حرب غزة أخيراً وهي تشاهد بأم عينيها وحشية الكيان الذي صافحته وصالحته. باختصار، لم يحمل خطاب بايدن تضامناً مع الضحية، بل جاء تسويغاً لظلم الجلاّد، ومحاولة لتبييض وجوهٍ عربيةٍ حشرها الجلاد في زوايا حرجة للغاية.

ويبقى أن الأهم في خطاب بايدن وصحبه الذين صدمتهم حرب غزة أخيراً ونتائجها، وما ترتب عنها من هزّاتٍ ارتداديةٍ طاولت شعوبها نفسها، أنّه كانت محاولات محمومة لحصر تلك الارتدادات، وإعادة القضية الفلسطينية إلى مربّعها الأول، وسحب بساط النصر من تحت أقدام المقاوم الفلسطيني، غير أنّها خطاباتٌ سقطت هي الأخرى بصواريخ غزّة.

EA8A09C8-5AE7-4E62-849E-5EBF1732C5FF
باسل طلوزي

كاتب وصحافي فلسطيني. يقول: أكتب في "العربي الجديد" مقالاً ساخراً في زاوية (أبيض وأسود). أحاول فيه تسليط الضوء على العلاقة المأزومة بين السلطة العربية الاستبدادية عموما والشعب، من خلال شخصيتين رئيسيتين، هما (الزعيم) والمواطن البسيط (فرج). وفي كل مقال، ثمة ومضة من تفاصيل هذه العلاقة، ومحاولة الخروج بعبرة.