فرناندو بيسوا الذي كاد للمجد فأتاه

فرناندو بيسوا الذي كاد للمجد فأتاه

22 يونيو 2023

تمثال لفرناندو بيسوا في لشبونة (4/2/2021/Getty)

+ الخط -

كل كاتب يبحث عن مجدٍ ما، مجدٍ غامض، أو قد يكون غامضا بالمصادفة، حسبما يرى البحث أو الباحث، حتى وهو على فراش الموت، حتى وهو يتمرّغ في وحل أعماله أو نكد حظّه أو غياهب فقره (الجاحظ والتوحيدي مثلا)، ولكن المجد دائما يأتي وفق هواه، لا وفقا لما نرغب ونتمنّى. قد يأتي في شكل تمثال في مدينة المعرّة كما هو الحال عند أبي العلاء، أو اسم شارع كان منسيا في بركة الفيل، فيصير أكثر نسيانا بعدما يتم عليه تعليق يافطة حديثة جدا لكاتبٍ خدم السلطة بعينيه ولسانه وقريحته وقطرات دمه سنوات، ويظلّ سكّان الحارة أكثر إصرارا على اسم صاحب الشارع القديم. 
المجد ، تلك العمامة التي يلفّ فيها صاحب الاسم ويصير الاسم بالعمامة أثرا باهتا لكاتبٍ من خدم فرعون أو حامل قربةٍ لسلطان أو كهامش بسيط في مخطوطة. هل كان الشاعر فرناندو بيسوا ينفر من المجد، أم كان يضحك على الأمجاد في سرّه ويستبدلها بنقاطٍ من الماء تتساقط في آخر الليل، ويسمع صوت القطرات بوضوح، بعد انقشاع المطر تماما؟ هل كانت المصادفاتُ هي التي ساقت هذا البرتغالي العبثي العظيم، في سنوات صباه الأولى، كي يجد نفسه مرميّا هناك بجوار رأس الرجاء الصالح؟ هل الأقدار تصنع بحكمة من لا يلتفت للمجد، حتى وإن رآه بجوار كتفه بهذا الشكل، فألقت بهذا البرتغالي إلى هناك، من دون أن يطمع بسفينةٍ إلى امتلاك أي مُلك أو مال أو مجد، سوى مهنة بسيطة يعيش منها في انتظار كتابةٍ تأتيه عجيبة عبر شخصياتٍ عدّة، فيضعها في صناديق خشبية وينساها، من دون أن يبحث لها عن أي أملٍ ما، فيأتيه المجد مرغما بعد موته؟ 
من ذلك الذي كان يحمي هذا العبثي العجيب من وراء ظهره كل هذا السنوات، من دون أن يدري صاحبه عن ذلك أي شيء؟ يقول بيسوا، في كتابه النثري "اللاطمأنينة": "لم أطلب سوى القليل من الحياة، وحتى ذلك القليل رفضت الحياة منحي إياه، طلبت حزمة ضوء من شمس"، هل هضم هذا العبثي الكبير تراث الكلبيين والعبثيين ومتصوّفة الشرق من دون أن يضع نصب عينيه على نصيب كل فصيل منهم من أي مجدٍ متروكٍ أو مسجّل في الأثر؟ هل الكتابة هي محو الأثر ومحو المجد نفسه تماما، وانتظار أشياء بسيطة ومُبهمة، لا هي العدل كما يسعى الأنبياء، ولا الحكايات المدهشة كما يفعل الرحّالة، فقد اكتفى بيسوا بالجلوس والنظر الهادئ من دون أن يراقب الملامح أو الانفعالات أو ما سوف يحدُث، كان بيسوا هو حديث نفسه، من دون أن يزعم حقيقة ما يؤكّدها لنفسه أو لغيره، ومن دون أي إرباكٍ لنفسه في طلبها أو السعي لها من قريب أو بعيد، حتى الحب، أضمره في نفسه كفكرة، حتى وإن وجد صداها في شخصٍ يألفه لسنّه، أو رفيق، أو خاله أو عمّه أو صاحبٍ يناجيه كظلٍّ سوف يرحل عنه، فاختلق له أشباها، لا هم هو تماما، ولا هم غيرُه تماما. 
ولأول مرة أقرأ لبيسوا جملةً تعلن عن تأكيدها وتقريرها شبه المعلن، إذ يقول: "أنا أفرحُ فوق كل شيء بالقليل، بتوقّف المطر، بوجود شمسٍ طيبة في هذا الجنوب السعيد"، بل لأول مرّة أيضا أجده يصف السعادة في مكانٍ ما، حتى ينهيها تماما ويقول: "إلى حدّ ما، أفضّل الحلم على الحياة التي بين يدي"، عبثي ينام هناك، حيث لا مبرّر لانتظار الأمل، وكأنه رماه من سنواتٍ في قعر سفينة مسافرة إلى رأس الرجاء الصالح، من دون أن ينتظر من المجد أي رجاء، فماذا دفع بيسوا مقابل ذلك، هو لا يتكلّم أيضا عما دفعه إلى الحياة أو دفعه إلى العالم، هو غير معنيٍّ بالغرامات أو التضحيات أو قرني المجد الباحث عنه في قعر أحلامه، هذا إن بحث أصلا في غير الكتب، هو معنيّ بزاوية النظر، وكأنه يتأمّل حلما طويلا شاغله في العالم، فوجده في غريب الكتابة، كتابة تشبه فرناندو بيسوا وحده، كتابة له وعنه وبه، كتابة تسعى إليه وكأنها تبحث عنه وحده، كتابة لا يعرف سواها ولا ينشغل بسواها، يقول: "لا أستطيع أن أقرأ إلا ما أعرف"، "لا أعرف متعة تعادل قراءة الكتب"، "أقرأ وأتخلى، لا عن القراءة، ولكن عن ذاتي نفسها"، ويصل إلى قمّة احتقاره أي مجدٍ للعبقرية حينما يعلنها: "ماذا سيفيدني أن أُدعى عبقريا إن كنتُ مجرّد كاتب حسابات". داس بيسوا بقدميه على فم المجد ساهيا، فأتاه رغم أنفه مرغما.