عن الحرب التي تحقّق السلام

عن الحرب التي تحقّق السلام

10 نوفمبر 2023
+ الخط -

أهم ما قدّمته الملحمة، التي تجري في فلسطين حالياً، تعرية الضمير الغربي وإظهار عورة عواصم الحريات، فقد ظهرت متواطئة مع جرائم الاحتلال. ... لفت الناس سقوط صحف كبرى ومرجعية في شرك نشر روايات مختلقة، بغرض منح شرعية لعدوان الكيان، كما لفتهم ذلك الإصرار على منح الحق الحصري في الظهور الإعلامي لمؤيدي ذلك العدوان.

في عددها الصادر أخيرا، وضعت مجلة إيكونومست البريطانية عنواناً لافتاً، "لماذا على إسرائيل أن تواصل القتال؟". كما يظهر، يسعى المقال إلى تبرير المعركة الإسرائيلية، وهو ما شرحه العنوان الثانوي، وفي معناه، إذا لم يتم كسر شوكة "حماس" فلن يتحقّق السلام.

كان المقال، الذي يعبر عن وجهة نظر المجلة، محبطاً، فبالنسبة لقرّاء كثيرين كانوا يحترمون هذه المجلة، ويعتبرون أنها تقدّم تحليلات رصينة ومتوازنة، كان من الصادم تبرير مواصلة استهداف المدنيين، والاستمرار في تدمير المستشفيات والمرافق العامة، وأن يقال إن وقف إطلاق النار لن يقود إلى السلام.

ظهر هنا أكثر من أي وقت مضى تحوّل تلك الواجهات الإعلامية الكبرى لمجرّد ذراع تابع لجهاتٍ منحازة سياسيًا للكيان. لا تختلف "إيكونومست"، التي كثيراً ما انتقدت افتقاد الدول العربية ودول العالم الثالث حرية التعبير، كثيراً عمّن كانت تنتقدهم، فهي جزء من الأسلحة الناعمة التي تستخدمها السلطة الغربية التي تمنح وسائل الإعلام خطّا لا تستطيع أن تحيد عنه، ليس في موضوع فلسطين فقط، وإنما في كل الموضوعات الأخرى.

بعد بدء مقالها بالصورة المأساوية التي يظهر عليها القطاع اليوم وتسجيلها إحصائياتٍ، من قبيل أن واحداً من كل عشرة مبان في غزّة قد جرى تدميره، وأن القتلى تجاوزت أعدادهم الثمانية آلاف، وأن عدداً كبيراً منهم أطفال، بعد ذلك كله انتقلت لتقول إنه لا بديل سوى الاستمرار في هذه المعركة من أجل القضاء النهائي على حركة حماس وجيشها وترسانتها. لا بديل عن هذه المعركة بهذا الشكل، وفق وجهة نظر المجلة، بسبب امتزاج الحركة بالنطاقات المدنية. بهذا، كل ما يجب هو توصية الجانب الإسرائيلي باحترام المبادئ الإنسانية بقدر المستطاع.

تحوّلت واجهات إعلامية كبرى في الغرب إلى مجرّد ذراع تابع لجهاتٍ منحازة سياسيًا للكيان

يذكّر منطق المجلة بفكرة نالت حظها من الشهرة في الأروقة السياسية الغربية، وتتعلق بتمجيد الحرب. كان أول من تجرّأ لطرح هذا المعنى بشكل صريح، هو الكاتب الأميركي الصهيوني، ادوارد لوتاك، الذي نشر مقالاً في مجلة فورين أفيرز الأميركية في 1999 تحت عنوان: "امنحوا الحرب فرصة"، فحواه أنه يجب الكفّ عن السعي إلى وقف الحروب، لأن هذه الحروب قد تنهي بعض الصراعات المعقّدة الماثلة بشكلٍ يقود إلى السلام، سواء بإضعاف الطرفين أو بانتصار أحدهما على الآخر.

نظرية لوتاك، كما كل نظرية استعلائية، متحيّزة بطبعها، فالحروب التي يجب أن تأخذ فرصتها كان يقصد بها على سبيل المثال حرب البوسنة إبّان المجازر ضد المسلمين، أو حرب الاحتلال الإسرائيلي ضد المدنيين الفلسطينيين، أو حرب سورية، التي يشكل عدم الاستقرار فيها مصلحة غربية. أما حينما تكون الحرب بين دول الشمال، أو في مكان يتعارض استمرار الحرب فيه مع المصالح الغربية، فالأمر يختلف، حيث يتوجّب إطفاؤها بأسرع ما يمكن.

في العام 2012، أي بعد عام على ولادة دولة جنوب السودان، كانت العلاقة بين السودان وجارته الجديدة لا تزال متوترة عسكرياً، وبدأت تظهر تعقيدات أمنية في أكثر من منطقة حدودية. حينها كتب جيرارد برونيه، الكاتب والباحث في مراكز مرموقة، منها "أتلانتك كانسل" الأميركي مقالاً في صحيفة نيويورك تايمز تحت عنوان: "في السودان... امنح الحرب فرصة". كان المقال ينطلق، ببساطة، من أنه ليس للغرب مصلحة في استقرار السودان، بل قد تقود هذه التوترات والحروب، في آخر المطاف، إلى سلام، حينما تستطيع جهة ما تحقيق نصر نهائي. وحسب برونيه، مشهد قتل عسكريين بعضهم بعضا أفضل من مشهد النساء والأطفال وهم يتضورون جوعاً بانتظار الوصول إلى حلول تفاوضية، وإلى سلام لن يأتي أبداً.

المتحكّمون في القرار الدولي مشكوك في رغبتهم في الحفاظ على تماسك الجيش السوداني، الذي لا يُخفون تحفّظاتهم عليه وعلى عقيدته

كان برونيه، مثل لوتاك، يذهب إلى أن الإسراف في الاتكاء على التفاوض والحلول السلمية وجهود الوساطات الأممية في مثل هذه النزاعات أمر غير سليم، وأفضل منه انتظار أن يحسم أحد الأطراف المعركة عسكرياً، وإن أخذ ذلك وقتًا أطول.

مضى برونيه، في مقاله ذاك، إلى ما هو أبعد، حيث اعتبر أن اندلاع حرب أهلية شاملة في السودان ليس أمرًا سيئًا كما يبدو، حيث سيقود، على الأقل، إلى إنهاء حكم عمر البشير، المكروه غربيًا، بعكس الحروب الصغيرة التي لا ينتج عنها سوى أعداد غير محدودة من الضحايا.

بعد حوالي عقد من مقال برونيه اندلعت حربٌ غير مسبوقة في الخرطوم، ورأي فريق أن الحل هو في استمرار المعارك وصولاً إلى انتصار الجيش، وأن أي تفاوض قد يؤدّي، في أفضل حالاته، إلى سلام مؤقت ومشوّه. هذا هو منطق "إعطاء الحرب فرصة". لكن ما يجري في الحالة السودانية إظهار من ينادون بذلك بمظهر المتطرّفين والمعادين للسلام، الذين يستحقون العقاب الدولي بسبب إعاقة الحل السلمي.

المقارنة بين الحالتين الفلسطينية والسودانية لافتة، ففي الأولى يرى "المجتمع الدولي" أن هناك جيشًا يجب دعمه للقضاء على مليشيا فوضوية وإرهابية (حركة حماس)، وإن تسبب ذلك في مقتل آلاف من المدنيين. الوضع في الحالة السودانية مختلف، فالمتحكّمون في القرار الدولي مشكوك في رغبتهم في الحفاظ على تماسك الجيش السوداني، الذي لا يُخفون تحفّظاتهم عليه وعلى عقيدته، كما أنه مشكوكٌ في رغبتهم في التخلص النهائي من المجموعة المتمرّدة.

مدى الفاتح
مدى الفاتح
كاتب وباحث سوداني في باريس، دبلوماسي سابق