عن أطروحة هزيمة الغرب بفعل أميركا

عن أطروحة هزيمة الغرب بفعل أميركا

07 فبراير 2024

(بيرن دي)

+ الخط -

تأبى أميركا أن تتخلّى عن إشعال الحرائق، وإذكاء الحروب والصراعات التي تروّج أبشع أنواع العنف، وأسوأ أشكال العنصرية منذ اختارت طريق فك العزلة، والدخول إلى العالم، حاملة القنبلة الذرية في يد، والدولار في يدها الأخرى، وبدأت خطواتها الأولى بصنع تراجيديا هيروشيما وناغازاكي في اليابان. ولم تتورّع بعدها عن الضرب في أكثر من مكان، لتكرّس نفسها شرطياً للعالم، ولتتحول اليوم، بفعل مخطّط تاريخي مرسوم إلى شريك مباشر مع إسرائيل في حربها على غزّة، بالسلاح والمال والدعم اللامحدود، وكذلك في استخدامها حقّ الفيتو لقطع كل فرصةٍ لوقف الحرب، وهي في أوكرانيا تجد ضالّتها في إذكاء مزيدٍ من الوقود على النار المشتعلة هناك لتزيدها اشتعالا، هكذا هي أميركا التي قال عنها مرّة المفكر الفرنسي فرانز فانون إنها تريد تحقيق مجدها الإمبراطوري فوق الأشلاء، وعلى فوّهات البراكين!

ومع أن مناطق كثيرة، ومن بينها منطقتنا، لم تشهد بعد نوعاً من التمرّد على الإرادة الأميركية لأسبابٍ كثيرة، إلا أن أصواتا عديدة شرعت تعلو، بخاصة في أوروبا، محذّرة من أن واقع الحال ينذر بهزيمة الغرب كله، بفعل السياسات والتوجهات الأميركية الموغلة في العدوانية.

نظّر لهذه الفكرة أخيراً المفكر وعالم الإنثروبولوجيا الفرنسي، إيمانويل تود، وقد كان الأكثر دقةً من بين مؤرّخين وباحثين عديدين سبقوه في هذا المنحى، وذلك في توصيفه خطوات السيناريو الجيوسياسي الذي قال إنه سيقود إلى الهزيمة النهائية للغرب، ما لم يتصدّ السياسيون وقادة الرأي العام لتدارك ما هو ماثل في الأفق بالسعي إلى تحقيق نوع من الاستقلالية في مواجهة الولايات المتحدة التي تشكّل أسّ هزيمة الغرب.

يقرّ تود بتراجع الأخلاقيات التي بشّرت بها الديانة البروتستانتية لدى شرائح المجتمع الأميركي، والتي كانت قد أنتجت، في رأيه، الانتشار العالمي للقراءة والكتابة، وصولاً إلى مستويات أكاديمية عالية في مختلف مناحي العلم، وأوصلتنا، بالتالي، إلى هذا الانفتاح المذهل للتكنولوجيا الذي نعيشه اليوم، لكن هذا التطوّر اللافت اقترن بجانبٍ سلبيٍّ تمثل في صعود أسوأ أشكال العنصرية كما وضح ذلك في معاداة السود واحتقارهم، وما نراه نحن اليوم في تماهي الإدارات الأميركية المتعاقبة مع السياسات العنصرية الصهيونية في مواجهة الفلسطينيين والعرب.

يقرّر إيمانويل تود "أن أميركا تسير على نهج عدواني، لأن الطبقة الحاكمة فيها خالية من الأخلاق، ولم يعد لديها دين، وكل ما تبقى لها هو المال والحرب"

قاد هذا التراجع، يشرح تود، إلى نمو النزعة العدمية في المجتمع الأميركي، وإلى تدهور فكري، وظهور الجشع الجماعي باسم "النيوليبرالية"، وفي هذا التحليل الذي يركّز على غياب القيم الروحية لا يرى المفكر الفرنسي فيه حالة رثاءٍ لما كان، وإنما هو إنذار بالخطر المحيق، والذي بدأت طلائعه في التدهور اللافت في الميدان الصناعي- الاقتصادي الذي كان الأميركيون يتبجّحون به دائما، والذي حصل على خلفية غياب أخلاقيات العمل وانخفاض المستويات التعليمية، حيث يصبح الناتج الإجمالي مجرّد فقّاعة.

الأمر الآخر الذي يحذّر إيمانويل تود منه هو "ترويج فكرة اختيار المرء جنسه كأن يصبح الرجل امرأة، والمرأة رجلا"، يقول تود: "ذلك مستحيلٌ بيولوجيا، إنه إنكار للواقع وتأكيد للزيف، وسببه اختفاء الدين من الحياة اليومية وانهيار القيم الروحية، وشأنه شأن تمجيد العنف إلى درجة الانغماس في الجريمة المنظّمة الذي يجرّ إلى مخاطر، وربما كوارث اجتماعية، إذ يتحوّل المجتمع في ظله إلى مجتمع ضائع، ولا معنى له"، وهذا ما حدث في أوروبا بفعل التأثير الأميركي، وهو ما أشاع استفزازاتٍ وتجاذباتٍ، وصراعاتٍ في مختلف أنحاء العالم، وما نشاهده اليوم جرّاء التدخّل الأميركي في مختلف القارّات بحجّة بناء الديمقراطية أو مكافحة الإرهاب هو صورة لتلك الظواهر المضادّة للإنسانية.

وفي سياق عرضه نظريته، يعزو تود انتقال أوروبا من الديمقراطية الليبرالية نحو الأوليغارشية (الأقلية) الليبرالية إلى التأثير الأميركي الذي هدفه السيطرة على أوروبا، ودفعها إلى مواجهة روسيا والصين، وقتل أية إمكانية بخلاف ذلك، معتبراً هذا التأثير "نوعاً من الإرهاب"، لكن "أميركا سوف تفشل، والمتماهين معها سيخسرون، لأن الواقع هو الذي يفوز، وأفضل شيء يمكن أن يحدُث هو انسحاب الولايات المتحدة والعودة إلى عزلتها".

وفي النهاية، يقرر تود "أن أميركا تسير على نهج عدواني، لأن الطبقة الحاكمة فيها خالية من الأخلاق، ولم يعد لديها دين، وكل ما تبقى لها هو المال والحرب، والمتعة الزائفة التي تخلق الفوضى وعدم الاستقرار في العالم، وهذا ما تواصل فعله في كل مكان".

583FA63D-7FE6-4F72-ACDD-59AE85C682EB
عبد اللطيف السعدون

كاتب عراقي، ماجستير علاقات دولية من جامعة كالجري – كندا، شغل وظائف إعلامية ودبلوماسية. رأس تحرير مجلة "المثقف العربي" وعمل مدرسا في كلية الاعلام، وشارك في مؤتمرات عربية ودولية. صدر من ترجمته كتاب "مذكرات أمريكيتين في مضارب شمر"