عندما يصبح الغاز الإسرائيلي الحلّ في مصر

عندما يصبح الغاز الإسرائيلي الحلّ في مصر

31 اغسطس 2023
+ الخط -

عند وصول أزمة انقطاع الكهرباء في مصر إلى ذروتها، في الأيام القليلة الماضية، بدأت إسرائيل والصحافة الإقليمية والدولية تتحدّث عن استخدام الغاز الإسرائيلي حلا لهذه الأزمة حديثا واقعيا ومنطقيا، فأين ذهب حديث الاستكشافات العملاقة وغير المسبوقة والصادرات بأرقام قياسية والغاز حلا لأزمة الدولار، واستفادة مصر من الحرب الروسية الأوكرانية وأهمية مصر لأوروبا إذن؟

في مشهد اعتراضي على أزمة انقطاع الكهرباء، والتي تعالجها الحكومة المصرية بجدولة تخفيف الأحمال على المناطق بتوقيتاتٍ شبه منتظمة، ظهرت فتاة في السويس تحمل لافتة تسأل: هل ذهب غاز مصر إلى إسرائيل؟ والصدمة التي قد لا تعرفها تلك الفتاة ومصريون كثيرون أن العكس يحدُث حاليا، ففي الأسابيع الماضية ناقشت حكومة الاحتلال زيادة صادراتها من الغاز إلى مصر بنسبة 30% في الفترة المقبلة، وتمت الموافقة على هذا القرار.

عندما تم ترويج استكشافات الغاز وتشغيل محطّات الإسالة في دمياط بأقصى طاقة ممكنة في السنوات الماضية، روّج بعضهم هذا نجاحا باهرا، ولم يلتفتوا إلى تحذيرات من قالوا إن هذا إعادة تصدير غاز "إسرائيل"، وأن الغرض الأصلي للاتفاقات الإسرائيلية المصرية في مجال الغاز ليس التسييل لإعادة التصدير، وإنما للاستعمال المحلّي وإيجاد اعتمادية مصرية مفرطة على الغاز الإسرائيلي، مثلما فعلت إسرائيل مع الأردن.

استوردت إسرائيل الغاز المصري منذ 2009 وحتى 2014 بأسعار أقلّ من العالمية، ثم هي تصدّره اليوم إلى مصر بأسعار أعلى من الأسعار العالمية

تحدث بعض كبار أساتذة الاقتصاد والتخطيط عن أن تصدير البلدان الشبيهة بمصر مصادر الطاقة علامة تخلف، ولا يجب أن يكون مفخرة، لأنه تصدير لمادّة خام أولية، كان يمكن، بحسابات الفرصة البديلة، أن تستغلّ في التصنيع، أو أن تترك لأجيال مستقبلية، بدلا من أن نترك هذه الأجيال مثقلة فقط بالديون، ومن دون مصادر طاقة نظيفة رخيصة.

لم تكن إسرائيل ساذجةً عند التخطيط لهذه الصفقات المليارية لتصدير الغاز إلى مصر، فبالضرورة يدرك قادتُها ومخطّطوها الاستراتيجيون أهمية إيجاد اعتمادية مفرطة لدول جوارها عليها. فعلت هذا مع السلطة الفلسطينية ومع الأردن، وتفعل الشيء نفسه مع لبنان ومصر، وليس هذا الهدف الوحيد، فهذا أفضل أبواب التطبيع مع الشعوب، فحين نعتمد على الغاز الإسرائيلي في الإنارة والطهو سوف يخرُج علينا المتحدث باسم جيش الاحتلال، أفيخاي أدرعي، أو أيٌّ من صفحات الدبلوماسية العامة الإسرائيلية، لتقول لنا "مهلا قبل أن تنتقدوا إسرائيل تذكّروا أنها من أنقذتكم من موجات الحر الشديدة، أو أن منزلا من كل ثلاثة على الأقل يُضاء بكهرباء مولدة بغاز إسرائيلي، أو أن واحدا من كل بوتاغازيْن يعمل بغاز إسرائيلي". حينها لن يستطيع أحد أن يردّ، وسيظل صوت الصمت يطاردنا جميعا.

المشكلة الكبرى أن غالبية الشركات العاملة في قطاع الطاقة في مصر، وتحديدا في استيراد الغاز وتصديره مع دولة الاحتلال، مملوكة للجهات السيادية، أو للواءات سابقين فيها تحولوا رجال أعمال. ويطرح هذا أسئلة أخرى، مثل إلى أي مدى يُدرك المسؤولون المصريون المخاطر التي يعرّضون الأمن القومي لها جرّاء مثل هذه الاتفاقات؟ وإذا كانت الاتفاقات السابقة بين رجال نظام حسني مبارك وإسرائيل بهذا الإجحاف الذي بيّنته المحاكم المصرية ذاتها بعد الثورة، فلماذا نعيد الكرّة بفساد أكبر؟ هل لدى إسرائيل ملفّات على هؤلاء الجنرالات مثلا؟ أم أن هذه هي أنماط تفكيرهم الذاتية في المصلحة الوطنية؟ وأي مصلحة وطنية تحقّقت من هذه الاتفاقات أصلا؟ ولماذا لم يحاول أحد من هذه الأجهزة أن يستغلّ السياق الثوري ليبني على الدراسات العلمية الجيولوجية التي تُثبت ملكية مصر أهم حقول الغاز الإسرائيلية، تمار وليفياثيان، وهما أقرب إلى المنطقة الاقتصادية الخالصة لمصر منهما لإسرائيل، إذا افترضنا أن الجنرالات المصريين يتعاملون مع إسرائيل كمسلمة؟ لماذا لم تتكتّل مصر مع لبنان وفلسطين وسورية، وبالتنسيق مع تركيا لتقود جبهة عربية لاستخلاص الحقوق العربية في غاز شرق المتوسط، وبدلا من ذلك اندمجت في مشاريع وهمية مع إسرائيل وقبرص واليونان؟ أي مصلحة وطنية تحقّقت من هذا التكتل في شرق المتوسط، بعد أن أصبحت مصر مستوردا للغاز، وشركات التنقيب لا تقوم بصيانة الحقول، ولا يبدو أنها متعاونة في تنفيذ عقود استكشاف، هي في أصلها شديدة الإجحاف بحقّ الدولة المصرية؟

لم تكن إسرائيل ساذجةً عند التخطيط للصفقات المليارية لتصدير الغاز إلى مصر

كان هذا الحديث وتلك الأسئلة مسموحة في عهد حسني مبارك ووصل إلى قبة البرلمان وقاعات المحاكم وأروقة الجامعات والصحافة، فلماذا ولصالح من يختفي هذه الأيام؟ لقد وسّعت الثورة مساحة هذا المسموح، حتى إن قضية وقف تصدير الغاز المصري إلى إسرائيل كانت رئيسية، ورفعت قضايا ضد اتفاق نظام مبارك مع إسرائيل بشأن الغاز، حيث كانت الأسعار المتفق عليها أقل بكثير من الأسعار العالمية، وكان موقف القضاء المصري إيجابيا من تلك القضية. بل ربما تواطأ المجلس العسكري مع العمليات المتكرّرة لاستهداف خط الغاز الموصل إلى الأردن وإسرائيل في سيناء، والتي نُسبت إلى المجموعات المسلحة في سيناء، إلا أن إسرائيل كانت حريصةً على تدويل المسألة، بل ورفعت قضية دولية، مستغلّة ثغرات صفقات الاستثمار الثنائية التي أبرمها نظام مبارك، والتي تعطي الأولوية للتحكيم الدولي على القضاء المحلي في معظمها، وحصلت بالتحكيم وبالتراضي مع النظام الحالي على تعويض سخي، استطاعت أن تحوّله إلى اتفاق لتصدير الغاز الإسرائيلي إلى مصر بالأسعار التي تريدها، والتي يشتبه في أنها أعلى من الأسعار العالمية، أي أن إسرائيل استوردت الغاز المصري منذ 2009 وحتى 2014 بأسعار أقل من العالمية، ثم هي تصدّره اليوم إلى مصر بأسعار أعلى من الأسعار العالمية. هذا كله ومن تتعامل معهم في تلك الصفقات شركات تابعة للاستخبارات المصرية حصرا.

يعلم القاصي والداني مدى التنسيق الأمني المصري الإسرائيلي منذ 2014 في عدة ملفات، سواء ضد المجموعات المسلحة في سيناء، أو حتى بتنسيقٍ إقليمي ودولي عالٍ في تحسين صورة النظام المصري في الدوائر الأميركية والغربية، وصولا إلى عروض وساطة في مسألة السد الإثيوبي وعدة قضايا أخرى. ولكن أن تدخل إسرائيل إلى البيوت المصرية بهذه الصورة الفجة، وتستطيع أن تقول إن واحدا من كل أربعة بوتوغازات في مصر يعمل بغاز إسرائيلي فهذا ما لم يتوقعه حتى مؤسّسو دولة الكيان، وما لم يتوقعه المصريون يوما، فأي تبعية واعتمادية تلك؟ وهل على المصريين البقاء فيها وتوسيعها، أم الوقوف بوجهها وتحدّيها؟