حكاية طيور لا تطير

حكاية طيور لا تطير

30 يناير 2022

بائع يعرض حمامه للبيع في سوق الطيور في عمّان (1/2/2019/Getty)

+ الخط -

اعتاد الناس أن يروه مفترشاً ركناً قصيّاً في إحدى مناطق عمّان الراقية، وأمامه قفصٌ ضخمٌ حافلٌ بأصناف متنوعة من طيور الزينة المعروضة للبيع، فإن تمّت صفقة شراء مع أحد الزبائن، سرعان ما يفتح البائع باباً صغيراً في القفص، لا يتسع إلّا ليده التي يرسلها باتجاه الطير المطلوب، فيخرجه ويحشره في قفصٍ أصغر، ويسلّمه للمشتري، ثم يغلق باب القفص، ويقبض الثمن.

كان الجميع على قناعةٍ تامّة آنذاك، أي قبل نحو ثلاثين عاماً، أنّ البائع لو نسي باب القفص مفتوحًا، فستهرب الطيور كلها. إلى أن تجسّدت القناعة نصفَ واقع، فقد نسي البائع، ذات يوم، باب القفص مفتوحاً بعدما أنهى صفقة بيعٍ معتادة، وانشغل بالحديث مع زبائن آخرين، ما زالوا يعاينون الطيور قبل الشراء. الأمر الذي أثار استغراب أحد الزبائن، والذي أشار إلى باب القفص، وهو يسأل البائع بدهشة: لماذا لم تهرب الطيور من القفص؟

تبلبل البائع وارتبك، وحار جواباً، ولم يملك إلّا أن يجيب: لعلّها لم تدرك أنّ باب القفص مفتوح. عندها، خامرت الشكوك نفوس الزبائن المتحلقين حول القفص، فقد ظنّ بعضهم أنّ هذه الطيور لا تطير أصلاً، أو أنّها مقصوصة الأجنحة، فاكفهرّت سيماء البائع، وخالجه إحساسٌ بالكآبة، وعاود إغلاق باب القفص، منتظرًا زبائن آخرين لم يشهدوا الحادثة.

حدث ذلك قبل ثلاثين عاماً، كما ذكرت، إبّان مرحلة الأحكام العرفية وقوانين الطوارئ، وحظر الأحزاب، التي كان يعيشها الأردن منذ الخمسينيات، واتسمت بمطاردة المعارضين والحزبيّين، والتضييق عليهم، وزجّهم في السجون سنوات طويلة.

كانت الشبهة "الحزبية" وحدها كفيلةً بتدمير حياة "المشبوه"، وقلبها رأساً على عقب؛ لأنّها تعني خسران الوظيفة، والمنع من السفر، والاستدعاء المتواصل إلى الجهات الأمنية، عند أدنى اضطرابٍ في الحياة العامة، حتى إن بعضهم كان يخصّص في بيته حقيبة جلدية صغيرة تحتوي على غيارات داخلية و"بيجاما" و"بشكير" و"زنّوبة"، يصطحبها معه عند الاستدعاء، لأنّه كان مهيَّأ، بحكم تجاربه، أن يقطع تذكرة ذهاب فقط.

والأنكى أنّ الأجهزة الأمنية كانت تضرب طوقاً، أيضاً، حول الحيز الاجتماعي المحيط بـ"المشبوه"، كأن تنصبّ أسئلتها لأي قريب أو نسيب أو صديق يضطر لمراجعتها ولو لاستخراج شهادة حسن سلوك، عن علاقته بـ"المشبوه"، وذلك بغية إحكام الخناق على "المشبوه"، وجعله شخصاً منبوذاً ينفضّ عنه الأقرباء والأصدقاء والمحيطون، خشية أخذهم بـ"جريرته".

في المحصّلة، كان العمل الحزبيّ مغامرة غير محسوبة العواقب في بلدٍ يطغى فيه هاجس أمن السلطة على ما سواه، ما جعل الأغلبية الشعبية تحجم عن التحزّب، أو الاقتراب من المتحزّبين، حدّ أن الوصية الأولى الموجّهة من الآباء إلى الأبناء حال بلوغهم سنّ الرشد، والتحاقهم بالجامعات: "تجنّبوا الأحزاب والحزبيّين"... وباختصار، ظلّ "باب القفص" مغلقًا أزيد من ثلاثة عقود.

أمّا اليوم؛ إذ ينقلب الحال، فينفتح "القفص"، فتبرز أصواتٌ من أجهزة السلطة تنادي الشباب والمواطنين إلى التحزّب، وتزيين الأمر متطلباً ضروريّاً للإصلاح وتحسين الحياة العامة، وبما يشبه "التسوّل" أحيانًا، عبر طمأنة المواطنين بمعاقبة أيّ جهة، حتى ولو كانت رسمية، تحاول عرقلة هذا التوجّه، أو تطارد الحزبيين وتأخذهم بهذه "الجريرة"، فيبدو حينها وكأنّ الأمر ضربٌ من خيال. والغريب أنّ هذا "التسوّل الحزبي" لا يجد له، حتى الآن، صدى شعبيّاً، لأسباب عدّة، أبسطها صعوبة تغيير ما استقرّ من رعب في الوجدان الشعبيّ عن تبعات التحزّب، والذي لا يمكن تغييره بضغطة زرّ، وأصعبها عدم القناعة بالتغيير الذي لا يشمل هرم السلطة ذاتها، فجلّادو الأمس هم ديمقراطيو اليوم، ومن كان يطارد الحزبيين والمعارضين سابقاً هو نفسُه من يطالبهم اليوم بالحزبية والمعارضة، حتى وإن أصبح "باب القفص" مفتوحاً على آخره.

عموماً، فاتني أن أذكر أنّ ثمة زبوناً واحداً لم ينفضّ من حول بائع الطيور المصدوم في ذلك الركن القصيّ من العاصمة، فقد قال للبائع: "طيورك تطير فلا تحزن، لكنّ معضلتها ليست في باب القفص، مفتوحاً أو مغلقاً، بل معضلتها مع بائع يفتح القفص ويغلقه متى شاء. ابتعد عن الباب وستراها تنفض أجنحتها وتطير".

EA8A09C8-5AE7-4E62-849E-5EBF1732C5FF
باسل طلوزي

كاتب وصحافي فلسطيني. يقول: أكتب في "العربي الجديد" مقالاً ساخراً في زاوية (أبيض وأسود). أحاول فيه تسليط الضوء على العلاقة المأزومة بين السلطة العربية الاستبدادية عموما والشعب، من خلال شخصيتين رئيسيتين، هما (الزعيم) والمواطن البسيط (فرج). وفي كل مقال، ثمة ومضة من تفاصيل هذه العلاقة، ومحاولة الخروج بعبرة.