جغرافيا الجزائر: أرض تحتضن أمّة

جغرافيا الجزائر: أرض تحتضن أمّة

03 مايو 2022
+ الخط -

لا يمكن الانطلاق في الحديث عن الموضوع من دون إبداء ملاحظتين، لنكون على بينة من الأمر بشأن بعضٍ ممّا تنشره صفحات على وسائل التواصل الاجتماعي للأشقاء في المغرب ويتحدّث به بعض المحللين. أولاهما تتعلق بوشائجية الصلة التي تربط بين أبناء المغرب الكبير، والتي لا بديل عنها، بل هي استراتيجية، حتى وإن شابها بعض اللغط السياسي، الآن، لكن من دون أن يقتل تلك الشُّعلة المغاربية التي تتوقّد داخل كل أبناء هذا الفضاء المغاربي الكبير. تشير الملاحظة الأخرى إلى الاعتراف بالجميل لكلّ أبناء المغرب الكبير، من تونس إلى المغرب وصولاً إلى موريتانيا ومروراً بليبيا التي لم تدخر جهداً في مساعدة الجزائر في الحرب التحريرية الكبرى ضد فرنسا، بل دفعت بعض هذه الدول ثمناً غالياً، ولا يُنسى نفي محمد الخامس أو تفجير الطيران الحربي الفرنسي المدينة الحدودية لساقية سيدي يوسف التونسية، وتلك قبعات يجب رفعها، مضافاً إليها الانحناء أمام تلك المنح والعطايا والتبرعات التي كانت تجمع في أنحاء البلاد العربية، لتصل إلى الجزائر سلاحاً وعديداً، سهل أشقاؤنا من المغرب وتونس دخولها إلى الجزائر، لتكون عوناً للمجاهدين في حربهم ضد العدو الفرنسي.
يشار، هنا، إلى تلك الصفحات على وسائل التواصل وتحليلات بعض المثقفين والإعلاميين المغاربة بشأن جغرافيا الجزائر التي يقولون إنّها تكوّنت باقتطاع أجزاء من المغرب الشقيق، وراح بعض من هؤلاء يغيّر من الخرائط الرسمية، ويضم إلى خريطة المغرب أراضي جزائرية، خصوصاً من الصحراء الجنوبية الغربية، بزعم أنّها، أصلاً، أراض مغربية اقتطعتها فرنسا لترسم جغرافيا بلد لم يكن موجوداً قبل 1830، العام الذي استوطنت فيه فرنسا الجزائر، في ربط بين زعم تلك الخريطة المصطنعة وميلاد أمة و بلد اسمه الجزائر.

إشارات إلى اسم الجزائر في خرائط متداولة لدى البحارة الأوروبيين، في إشارة إلى أراضٍ تمتد لتغطي تقريباً كلّ الجغرافيا الحالية للبلاد الجزائرية

بداية، انطلقت جغرافيا كلّ الدول في العالم من إقليم قاعدي، مدينة رمزية، بقيادة كاريزمية أو من خلال الاستعمار (الأداة الخارجية)، وفق تحليلات من كتب في الوحدة على غرار نديم البيطار في كتابه "من التجزئة إلى الوحدة" حيث أشار إلى نماذج من تلك التجارب الوحدوية: ألمانيا انطلاقاً من بروسيا وبقيادة بسمارك، فرنسا من سان دونيس (ضواحي باريس) بقيادة لويس الرابع عشر، إيطاليا من نابولي وبقيادة غاريبالدي، وغيرها من تجارب وحدوية لا يمكن الجزم معها إلا بأن الجغرافيا الحالية هي من صنع التجارب التاريخية، مع إضافة خليط يتكون من قيم مشتركة، تاريخ مشترك، لغة، دين وتقاليد متقاربة، ليكون الجميع مكوّناً لما يعرف في علم الاجتماع بالأمة، ومنها تتكون من دون أن يكون لأي كان أن يجادل بشأنها. الآن، يمرّ التاريخ ليعيد رسم خرائط جديدة قد تؤدّي إلى إشعال فتيل الحروب، كما جرى مع هتلر عندما أشاع في أوروبا، للحصول على ما يعرف بالفضاء الحيوي، قضية الأقليات الألمانية ووجوب ضمها إلى ألمانيا، بل وما يجري، حالياً، مع قضية ضم روسيا أقاليم بزعم أنّها تحتوي على أقليات روسية (القرم ودونباس، في أوكرانيا).
الإشارة هنا إلى عوامل موضوعية في تكوين التاريخ والأمم، والجغرافيا لا يمكن المجادلة بشأنها، لأنّها صنعت العالم الذي نعيش فيه وضبطه القانون الدولي في تعريفه الدولة القومية ومكوناتها إلى درجة اعتبارها مقدّسة لا يمكن التراجع عنها أو المطالبة بوجوب أن ترسّم، من جديد، وإلّا كان ذلك إعادة نظر في طبيعة تكوّن الجغرافيا السياسية للعالم برمته.
بالنسبة للجزائر، ثمّة حقائق لا يجب التغافل عنها في تكوين جغرافيا البلاد، من العهد العثماني وصولاً إلى الاستيطان الفرنسي، إذ تشير خرائط كثيرة إلى وجود أرض تسمّى الجزائر، جرى توثيق توقيع من يحكم أقاليمها لمعاهدات ما زال بعض منها موجوداً، حتى في قلب أقدم ديمقراطية، الكونغرس الأميركي، منذ نهاية القرن الثامن عشر، كما أنّ هناك إشارات إلى اسم الجزائر في خرائط متداولة لدى البحارة الأوروبيين، في إشارة إلى أراضٍ تمتد لتغطي تقريباً كلّ الجغرافيا الحالية للبلاد الجزائرية.

الجغرافيا الغربية للجزائر كانت تمتد من إقليم وهران، في أثناء العهد العثماني، وصولاً إلى تلمسان، يحكمها داي واحد باسم السلطان العثماني

يشار، أيضاً، إلى أنّ الجغرافيا الغربية للجزائر كانت تمتد من إقليم وهران، في أثناء العهد العثماني، وصولاً إلى تلمسان، يحكمها داي واحد باسم السلطان العثماني، من دون أن يكون قد صدر عن السلطان المغربي، في تلك الأحقاب التاريخية، أيّ شكاوى ومطالبات بجغرافيا أوسع للمملكة المغربية التي بقيت الأرض الوحيدة التي لم تخضع لحكم العثمانيين، في المغرب الكبير. وعندما دخلت فرنسا، مستعمِرة للجزائر، ورسمت خريطتها الحالية، كانت البلاد قد عرفت مكوناتها الاجتماعية بكل المعطيات التي سبق الحديث عنها، ودليل ذلك أنّ مبايعة الأمير عبد القادر الجزائري وانضمام القبائل للمقاومة، معه وتحت قيادته، باعتباره أول قائد جزائري للدولة الجزائرية، ضد الاستيطان الفرنسي، جرت طواعية، لشعور الجميع أنّهم ينتمون إلى فضاء مشترك قلبه العاصمة الجزائر، وامتداداته تغطي، تقريباً، الجغرافيا الحالية للبلاد الجزائرية.
وباعتبار أنّ الاستعمار رسم جل الجغرافيا الحالية لدول العالم، حصلت الجزائر على خريطتها الحالية، بشأن بعض المناطق، خصوصاً في الصحراء الشاسعة، بعد توسّع فرنسا في عملية الاستيطان بداية من 1830، ومن دون أن يكون للأشقاء في المغرب، أيّ معارضة، بل أنّ المقاومة التي جرت تحت قيادة الأمير، ثم امتدت مع الشيخ بوعمامة، في تلك المناطق، كانت تغطي جغرافيا الغرب الجزائري ولم نسمع أنّ السلطان المغربي رفع صوتاً بتجاوز الجزائريين والفرنسيين، على حد سواء، جغرافيا المغرب الشقيق في أي من الأقاليم التي يزعم بعضهم، الآن، أنّها اقتطعت من جغرافيا المملكة المغربية.
يضاف إلى ما سبقت الإشارة إليه أنّ الجزائريين، عندما حاربوا فرنسا في الحرب التحريرية الكبرى (1954-1962)، بمساعدة، كما سبق القول، من أشقائهم المغاربة، بصفة خاصة، قاموا بذلك انطلاقاً من بيان أول نوفمبر/تشرين الثاني 1954، الذي تحدث عن بلاد اسمها الجزائر، رفعت البندقية، لتعلن بداية شرارة الاستقلال، مع العلم أنّ جغرافيا تلك الأرض التي تسمّى الجزائر في ذلك البيان هي الجغرافيا الحالية بكلّ صحرائها وبكلّ أقاليمها الغربية.

المغرب الشقيق كان قد وقّع على ترسيم للحدود الحالية، معترفاً، بالتالي، بالجغرافيا الجزائرية، في بداية سبعينيات القرن الماضي

وفي دليل آخر، عندما انطلقت مفاوضات إيفيان (في سويسرا، وانتهت بإعلان وقف إطلاق النار ثم استقلال الجزائر في يوليو/ تموز 1962)، كانت على الطاولة مطالباتٌ جزائريةٌ باستقلال أرض بالجغرافيا الحالية. وحتى عندما ماطل ديغول، من خلال ممثليه، باقتطاع الصحراء، لدواع اقتصادية ودفاعية (كانت فرنسا قد اكتشفت النفط والغاز، واتخذت من الصّحراء الجزائرية موقعاً للتجارب النووية والكيميائية)، جاء الردّ من المفاوضين الجزائريين أنّ الاستقلال مشروع مقدّس، يغطي كلّ الجغرافيا التي رفعت جبهة التحرير الوطني (الممثل السياسي) والجيش الوطني الشعبي (جناحها العسكري في الثورة التحريرية الكبرى) السلاح للوصول إلى تجسيده، إلى أن جرى الاتفاق، وتم التوقيع عليه معلناً انبعاث الدولة الجزائرية الحديثة التي كان الأمير عبد القادر الجزائري قد شكّلها، غداة بداية المشروع الاستيطاني الفرنسي، في القرن التّاسع عشر. وهي ذاتها الجغرافيا التي أودعها الرئيس الراحل، أحمد بن بلة، في 1962، لدى الأمم المتحدة التي اعترفت بانضمام الجزائر عضواً في المجتمع الدولي.
تلك هي القصّة الكاملة والموجزة لجغرافيا الجزائر التّي لا مجال للجدال بشأنها، لأنّها تشكلت بدماء المجاهدين والشهداء، ولا يمكن لمن لم يطالب بها وهي ضمن المشروع الاستيطاني الفرنسي، من قبل، أن يظن أنّ مطالباته الحالية مبرّرة، من دون إغفال أنّ المغرب الشقيق كان قد وقّع على ترسيم للحدود الحالية، معترفاً، بالتالي، بالجغرافيا الجزائرية، في بداية سبعينيات القرن الماضي في عهد الملك الرّاحل الحسن الثاني.
لا يمنع هذا، كما سبق القول، أن يرفع الجزائريون القبّعة لأشقائهم في المغرب على ودّهم ومساعدتهم لهم في تحرير البلاد، بل لا يمنع هذا من الاعتراف بأنّ مشروع الوحدة المغربية هو المشروع الكفيل بأن يدفن كلّ الجغرافيات القُطرية، ويوحّد الآمال في وطن شاسع بامتداداته المغاربية في وطن اسمه المغرب الكبير، وتلك قصة أخرى، لعلّنا نصل إليها يوماً ما...