شيء من الكلام عن رئاسيات الجزائر المقبلة

شيء من الكلام عن رئاسيات الجزائر المقبلة

06 ابريل 2024
+ الخط -

قرّر الرئيس الجزائري عبد المجيد تبّون تقديم موعد الانتخابات الرئاسية المقرّرة، أصلا، في نهاية السنة الجارية، إلى سبتمبر/ أيلول المقبل، وهو ما أثار بعض اللّغط في الأوساط السّياسية في الجزائر وخارجها. ومع أنّ ثمّة تفسيراً حاولت السُّلطة تقديمه تبريراً للقرار، إلّا أنّ الفعل السّياسي يبقى محلّ أخذٍ وردّ، ذلك أنّ السّياسة إقناع واقتناع، ما دفَع إلى كتابة هذه المقالة، سعيا إلى فهم متلازمات الجزائر في باب الشّخصية القومية وموقع الرّئاسيات المقبلة منها، لأنّ القرار قد اتُّخذ، وعلينا النظر إلى الأمر من زاويةٍ أخرى مختلفة تماما. قد يكون فيها شيءٌ من الفلسفة، ولكنه موضع التفكير بالنسبة لمن سيترشّح لها، أو على الأقلّ لمن يريد فهم مكانة الرئاسيات من مشروع نهضة الجزائر، باعتبار أنّه هدفٌ يروم الجزائريون الوصول إليه منذ الاستقلال في 1962. ولكن بعيداً عن المنعرجات المفصليّة التي نغفل عنها، كما سيأتي.

لا يمكن فهم متلازمات بلدٍ ما من دون الغوص في مسلّمة الشّخصية القّومية التّي نستلهم، في هذه المقالة، مقاربتها من سفر الرّاحل جمال حمدان "شخصية مصر ... دراسة عن عبقرية المكان"، الذي درس فيه مصر، في محاولة لنقل سياقها إلى بلد مثل الجزائر، يحتاج فهم ما يجري فيه مغامرة الغوص في متلازماته التّي تراوح بين التّاريخ والجغرافيـــــا والهويّة، وصولا إلى الإمكانات الاقتصادية، بقصد صنع ذلك الخليط الذي قال عنه مالك بن نبي، رحمه الله، يوما، إنّه كفيل بنقل الجزائر من إنسان ما بعد الموحّدين، بقابليته للهشاشة والاستعمار، إلى إنسان يصنع التّاريخ، ويُغيّر الواقع بحجم ما قام به ثلاث مرّات، من قبل، كلُّها منعرجاتٌ فاصلة، يوم مبايعة الأمير عبد القادر الجزائري، في 1830، ليؤسّس الدّولة الجزائرية الحديثة، يوم إنشاء جمعيّة العلماء الجزائريين في 1931، غداة احتفال فرنسا بمئوية الاستيطان ومسخ هويّة البلاد ثمّ من خلال الثورة التّحريرية الكبرى (1954-1962)، لاسترجاع مسار الدّولة وانبعاث الشّخصية القومية مرّة أخرى، ببيانها الخالد الذي ما زال دستور الأمّة.

أوّل عنصر نحتاج إلى فهم سياقاته قصّة الماضي، لأنّها سارية في دماء شعب لم يعرف راحة ولا هناء العيش في حرّيّة، قروناً

إنّها المحطّات التي صنعت تلك الشّخصية وصقلت تجربتها التّاريخية، بمعنى أنّ أوّل عنصر نحتاج إلى فهم سياقاته قصّة الماضي، لأنّها سارية في دماء شعب لم يعرف راحة ولا هناء العيش في حرّيّة، قروناً، خاض فيها كلّ المعارك ودافع ضدّ كل الخصوم والأعداء، حتّى أولئك الذين جاء بهم، بمحض إرادته، عندما انقلبوا من مجرّد حماة إلى أسياد. ويعني بهم هنا العثمانيين، ثمّ الاستيطان الفرنسي الذي كاد يعصف، إلى الأبد، بكلّ شيء في سنوات جمر استمرت أكثر من قرن و30 عاماً، وهي ضريبة، وفق مالك بن نبي، لذلك الوهن الذي طبع شخصية الجزائري ما بعد عصر الموحّدين، شخصية بدون روح، بدون مشروع ومن دون هدف.

استعاد التّاريخ مكانه تحت شجرة، بمعسكر، مدينة في غرب الجزائر، في 1830، عندما بُويع بالإمارة، إمارة الجهاد ضدّ فرنسا، شاب ثلاثيني هو عبد القادر الجزائري، ليحمل قدرا كبيرا هو انبعاث الدّولة الجزائرية ويؤسّس جيشا، اقتصادا حربيا بل وعملة ومصانع تقليدية لصنع السّلاح والذّخيرة، إضافة إلى وزارة للثّقافة تنقل المعرفة بين أراضي المعارك بمئات الكتب التي كانت ترافقه في حلّه وترحاله. ولربع قرن، كان بمثابة قرون بالنّسبة لدول كبيرة، كانت تؤسّس لمركزيتها التي نعرفها حاليا على غرار فرنسا، نفسها، ألمانيا، بعد 40 عاماً، على يد بسمارك أو إيطاليا على يد غانيباردي، سبق جزائري يشبه، إلى حدّ كبير، ذلك السّبق، في التقاط عجلة تحوُّل التّاريخ، للانتقال نحو الدّيمقراطية، في 1988، غداة انتفاضة أكتوبر/ تشرين الأول من ذلك العام، والتي فتحت الباب واسعا أمام التّعدُّدية، وفشلت بعدها بثلاثة أعوام فقط.

الجدلية المقبلة فاصلة، إمّا وجود أو إشكاليّة بقاء، ذلك أنّ ما يجري داخلياً وخارجياً مفصلي، ويحتاج إرادة صلبة

لم يكن لذلك التّاريخ كلّ تلك الحركيّة لولا جغرافيا الجزائر، أي موقعها الجيوسياسي، وهي جغرافيا لها محدّداتها، حيث كان الغزو يأتي، دوما، من الشّمال جغرافيا، قال عنها المؤرّخ مبارك الميلي، رحمه الله، بأنّها كانت مستقرّة، تقريبا، بحدودها الحالية، مترامية الأطراف، بسواحل شاسعة وبعمق، نحو الجنوب، يغطّي الصّحراء الكبرى، بلد بحجم قارّة أضحى ضحيّة موقعه ومطمعا بسبب تلك الجغرافيا التي صنعت من رجاله تلك العصبيّة التي لازمتهم ورافقت صراعاتهم لحمايتهـا والعيش في كنفها.

طبعا، لا يمكن لجغرافيا بهذه المواصفات إلّا أن تكون غنيّة بملايين من الهكتارات من الأراضي الخصبة، بسواحل جالبة لكلّ خيرات المتوسّط وصحراء واعدة بنخلها وتمرها ثمّ، حديثا، بنفطها وغازها، لتتشكّل القاعدة الاقتصادية التي جعلت من البلاد، قديما، سلّة غذاء لكلّ الفضاء المتوسّطي وأوروبا، وحديثا، للأسف، بلدا ريعيا يراوح مكانه ولا يجد للنُّمو والتّطوُّر أملا ولا مشروعا بل، بسبب غنى تلك الجغرافيا، حلّت عليه لعنة الموارد، كما يسمّيها بعض الاقتصاديين، لتلد فسادا، على المستوى الاقتصادي، وعصابة، على المستوى السّياسي، بمسمّيات قائد الأركان، القايد صالح، رحمه الله.

بالنّسبة للهويّة، البلاد مطمئنة إلى سرديّة خالطتها معطيات الرُّوح (الإسلام)، ومعطيات اللّسان (العربية والأمازيغية)، ولم تعرف إلا انسجاما وتوافقا اجتماعيا ومجتمعيا قلّ أن تجد مثيلا له في بلد شاسع بحجم الجزائر، مع الاعتراف بأنّ تلك السّردية استفادت من كل ما مرّ بها من بشر، إمّا عايشوا أهلها أو حاولوا غزوه ولكن، على الدّوام، كانت مساهماتهم غنيمة حرب على حدّ قول أحد الأدباء، واصفا اللُّغة الفرنسية التي جاءت مع المستوطن الفرنسي، وجدت لها مكانا ولكنّها لم تغلب هوية الشّخصية القوميّة، لأنّها وجدت في زوايا منطقة القبائل ومدارس جمعيّة العلماء المسلمين من وضع حدّا لدورها في إرادة مسخ هويّة شعب صمّم على البقاء وتجسيد الانبعاث الحضاري أو العروج الحضاري، وفق مالك بن نبي، رحمه الله.

إنّه المستقبل، بكلّ أبعاده، يلوح في الأفق، وينتظر منّا فهماً عميقاً لمضامينه

إنّها مسلّمات بلد وشخصية قومية، على من يريد التّرشُّح للرئاسيات أن يعيها، وأن يعي حجم الفرص الضّائعة لعدم فهم أبعاد ذلك الخليط الكيميائي العجيب الذي انطلق من تحدّي إنسان ما بعد الموحّدين المسترخي الضّعيف، لتتولّد منه استجابة، وفق نظرية المؤرّخ البريطاني أرلوند توينبي، صنعت بتلك التفاصيل الكبرى منعرجات فاصلة، آن لها أن تقفز به إلى مصاف القوى الإقليمية بكلّ مقومّاته بعيدا عن بكائيات ما تمّت سرقته ونهبه، أو ما لم يتمّ إنجازُه، قالبا الصّفحة، وكـأنّ البلد استقلّ لتوّه، ويريد مشروع انبعاث جديد.

منذ حوالي 15 عاما، كان أحد الخبراء قد قال إنّ الجزائر لم تتحرّك، منذ الاستقلال، قيد أنملة، بسبب كلّ تلك الأخطاء التي صنعت الانكشاف والهشاشة، بل كادت تعصف بالبلاد، في عشريّة سوداء وحمراء، لا نعرف لها سببا، أو نعرفه. ولكن لا نريد للجراح أن تستمرّ في النّزيف، وهي أخطاء، المقصود منها وغير المقصود، كانت تحتاج مساءلة، ولكن بمرجعية وعي كلّ ما سبق ذكره، وبهدف عرض مشروع يليق بانبعاث جديد، وليس سبق سياسي فقط، بل منعرج للاستجابة بحجم المنعرجات الثّلاثة التي كان على الجزائر أن تمرّ بها ونجحت في تحويلها إلى منصة انطلاق، وإن تعطّل وتوقّف برهة، تحتاج، مرّة أخرى، بإرادة الشّخصية التي ما زالت موجودة، لتعود وتنبعث فيها الرّوح.

صحيح أنّ البلاد عاشت جدليّات كثيرة، جدلية الأمني والسّياسي، جدلية الدّاخل والخارج وجدلية الرّهان السّياسي والتّحدّي للأمن القومي، ولكن الجدلية المقبلة فاصلة، إمّا وجود أو إشكاليّة بقاء، ذلك أنّ ما يجري داخلياً وخارجياً مفصلي، ويحتاج إرادة صلبة، وهي الخليط وأبعاد الرّهانات، وليس مجرّد موعد انتخابي. إنّه المستقبل، بكلّ أبعاده، يلوح في الأفق، وينتظر منّا فهماً عميقاً لمضامينه، لأنّ الكلّ يتحرّك، والكلّ يريد تحقيق مصالحه ببراغماتية وواقعية، معلناً انتهاء عصر الأحلام الورديّة. إنّه المنعرج الفاصل الرّابع، حقّاً، له رجاله أو يحتاج إلى رجاله، وفق حديث المفكّر والرّجل الوطني الرّاحل عبد الحميد مهري، رحمه الله.