جدل الانتخابات الرئاسية المصرية وحديث الجدوى

جدل الانتخابات الرئاسية المصرية وحديث الجدوى والجدّية

27 سبتمبر 2023

قبل مؤتمر صحفي في القاهرة بشأن الانتخابات الرئاسية المصرية (20/9/2023/Getty)

+ الخط -

منذ أكثر من شهرين، وبينما انطلقت الحملة الدعائية للرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، عبر إعلام مملوك للدولة وعموم المصريين، أو شبه خاص موجّه من الأجهزة السيادية التي تنظر إلى الإعلام باعتباره إعلام الأذرع، وهي جزء من هذا النظام وبنيته، على اختلافات طفيفة هنا أو هناك بين ملكيتها ومالكيها مع اتفاق عام على الخضوع للتوجيهٍ من هاتف سامسونغ، كما سقط أحد الإعلاميين بنفسه وأذاع. وأعلنت الهيئة الوطنية للانتخابات الجدول الزمني لها بعد عدة تكهنات ما بين تأجيلها أو تقديم موعدها وما بين المرشّحين المحتمليْن وما بين استهدافهم بحملات التشويه المعتادة لكلّ من يخرج عن الصف، ويخالف إعلام الصوت الواحد وأحزاب الموالاة.

وفي هذا الإطار، على المصريين أولا، والباحثين في العلوم السياسية، الإشارة إلى بعض الملاحظات، أولاها أن أي جدل عام بشأن الانتخابات في كل البلدان يُفترض أن يكون صحيا، وبعضه في مصر هو كذلك، وبالذات حديث الضمانات الدولية المطلوبة وحديث التعددية وحديث محاولات بناء جبهة موحّدة للمعارضة والحديث الناقد بشدة للسياسات الاقتصادية، سواء من مقرّبين للنظام أو الواقفين على الجهة الأخرى تماما في مواجهة هذه السياسات وتلك التوجهات. وثانيتها حديث الجدّية. وفي هذا الإطار، علينا ألا نفرط في التفاؤل والأمل الزائف بأنه يمكن أن تتم انتخابات بقدر من الحرية والنزاهة والشفافية في ظل نظام حكم عسكري، بدأ حكمه بمجزرة هي الأسوأ في تاريخ مصر الحديث، ليبدأ بعدها حديث التفويض خارج نطاق أي قانون أو مؤسّسات لبدء حرب على الإرهاب امتدّت سنوات، ودمرت الاقتصاد بشاراتها الثابتة على الفضائيات الموجهة "مصر تحارب الإرهاب"، تارّة نيابة عن العالم لجلب الدعم المالي، وتارّات أخرى نيابة عن المصريين في مناخ استقطاب وإقصاء مجتمعي حاد، حرص على استمراره أكثر من عشر سنوات، فقط لبناء شرعية دولية ومحلية للنظام الجديد والمحافظة عليها.

القول بأن نظام حكم عسكرياً قد يقيم انتخابات حرّة نزيهة، أو بدرجة ما من النزاهة والحرية والشفافية، في حقيقته، ضرب من السذاجة والخيال، حيث تبرز أدبيات العلوم السياسية إشكالية الأنظمة العسكرية القادمة إلى السلطة عبر الانقلابات أنها لا تملك رؤية واضحة للخروج من السلطة، بغير الموت أو دبابة أقوى، برغم أن الانتخابات قد تكون مخرجا آمنا لتلك الأنظمة.

ثالثة هذه الملاحظات أن الانتخابات هذه تأتي في سياق داخلي لنظام يعيش أزمة اقتصادية حادّة بسبب سياساته المفرطة الاستدانة من الخارج والداخل حد مضاعفة الديْن الخارجي أكثر من أربعة أضعاف، وهي مفرطة في التقشّف على الشعب المفقر، ومفرطة أيضا في الإنفاق على ما تسمّى "المشاريع القومية"، فيما هي مشاريع بنية تحته وتحت قصوره ومدنه الجديدة التي لا يستطيع الولوج إليها غير النافذين من المقرّبين منه، وهم لا يتجاوزون النصف بالمائة، سواء لارتفاع أسعارها أو لأسباب أمنية وعسكرية.

الأمل الوحيد أن يكون خلف طنطاوي تحالفٌ واسعٌ غير إقصائي من أفراد قابلين وقادرين على دفع ثمن السعي إلى الإصلاح

ورابعتها أن الأزمة المتعلقة بالاقتصاد السياسي المصري المأزوم بالفجوة التمويلية المزمنة وتبعاتها على تذبذب أسعار الصرف، والقدرة على التشغيل، وضعف صناعاته التحويلية والاعتمادية المفرطة على الخارج تمويلا وواردات، والذي يحتاج لإصلاحات هيكلية في اتجاه مضاد تماما لاتجاه الصندوق والبنك الدوليين، وبعض وكلاء في الخليج من كفيلي النظام الحالي، والذين اشتروا كل ما يمكن شراؤه في إطار الخصخصة وإشراك القطاع الخاص شبه المؤمم للنظام والجيش، وليس للدولة المصرية، مقابل سد جزء من الفجوة التمويلية، هذه السياسات لم تعد كافية لسد تلك الفجوة، ولم يتبقّ المزيد من القطاع العام ليباع، ومن ثم الأزمة أكبر من قدرات هذا النظام على الحل، وهي بالضرورة أكبر من أطروحات كثيرين من رموز المعارضة الحالية، وهي أزمة دولة ونظام ومجتمع وسوق في آن واحد.

الملاحظة الخامسة، ضعف سقف التوقعات، حيث إن هناك تحليلات لتقارير تشير إلى أن القوى الناقدة القريبة من النظام تأمل في إخراج أفضل للانتخابات الرئاسية المقبلة عما كان عليه الوضع الكارثي في 2014 و2019، حيث كان المرشّح الفائز لا يقبل بأقل من 96% من أصوات الناخبين على قلة المشاركة السياسية، رغم التهديدات الانتخابية بعقوبات رادعة للمقاطعين، وأن تقبل ألا يكون المرشح الآخر ترتيبه الثاني بعد الأصوات الباطلة، ولعلّ وجود أكثر من مرشّح محتمل ينقذ النظام من هذا المأزق الذي يفرغ الانتخابات من مضمونها ويحوّلها إلى مسرحية هزلية. وقد يدفع هذا التخوّف باتجاه محدود نحو الجدّية.

سادس الملاحظات أنه لا ينبغي أن نفرط في التفاؤل، فالأمر، باستثناء مرشح محتمل وحيد جريء، ليس أكثر من منافسة بين حلفاء "30 يونيو"، أكثر الناقدين له من هؤلاء يتمنّون فقط العودة إلى تحالف 30 يونيو الواسع، وعدم إقصائهم من المشهد وإخراج أصدقائهم وأبناء تيارهم فقط من السجون، ويعوّل هؤلاء كثيرا على مسرحية الحوار الوطني الذي يعتبرون مجرد طرح قضية انتخابات المحافظين أو تعيينهم فيه إنجازا، رغم أنهم تبنّوا في الأخير الرؤية الشخصية للسيسي، غير المؤمن بأي انتخاب، ولو في إطار الجامعات لا المحليات، حتى وإن كان من حق العسكريين الترشّح لتلك المواقع التنفيذية المجرّدة من أي صلاحيات دستورية وقانونية، غير ما يفوّضها إياه الرئيس ومجلس الوزراء والوزراء والهيئات المختلفة.

 الغريب والمفارقة أنّ من يقودون المحروسة أكثر من عشرة أعوام يقومون بالمزايدة على الجميع بالوطنية ويستخدمون في الوقت نفسه برامج تجسّس إسرائيلية لمحاولة اختراق هاتف مرشّح محتمل

ولا ندري كيف يمكن التفاؤل بجدّية نظام أطلق حوارا وطنيا عاما، لم يناقش القضايا البنيوية للاقتصاد والسياسة المتأزّمة، ويكتفي بمناكفات موضوعات اجتماعية، مثل الطلاق والزواج والنفقة، بل عندما عرّج إلى السياسة سهوا في موضوع المحافظين، كانت القرارات المسمّاة توافقية شديدة الإحباط، إذ خرج علينا واحد من أقدم اللواءات السابقين في الجيش، وأكثرهم توليا لمنصب المحافظ، ليعلن أن تعيين المحافظين هو الخيار الأفضل الذي توافق عليه أعضاء الحوار الوطني، في بلد يدير 20 من محافظاتها الـ27 عسكريون أو أمنيون، ويطالب الرئيس بتعيين ضابط لكل قرية، بدلا من نظام العمد الذي يتشكّك في أن ولاءه لنظام حسني مبارك.

سابع تلك الملاحظات، لم نر برنامجا انتخابيا لرئيسٍ يفترض أن من حقه التجديد له، وأنه قد أوتي الملك من قبل الله الذي يدّعي أنه كليمه. لم نر برنامجا للقوى السياسية المصرية المعارضة، بما يعني أنه لا أحد يؤمن بجدّية هذه الانتخابات، ونرى انقساماتها تتّسع أكثر فأكثر وبعضها يحمل مواقف إقصائية حدّية تجاه بعض آخر، ويسهل وينتشر التخوين والمزايدة بينهم وأكثرهم يتبنّى سردية النظام.

أما الملاحظة الثامنة فهناك من يتحدث عن ضمانات النزاهة والشفافية، بينما تنطق المؤسّسات الحكومية والخاصة المقرّبة من النظام بلسانه في الصحافة والإعلام والتواصل الاجتماعي كحملة انتخابية ممولة بأموال الشعب، فيما انطلقت عدة حملات اعتقال ضد أطياف المعارضة المختلفة، ومن بينها 36 عضوا بحملة أحمد طنطاوي مرشّحا محتملا. وهذا يدفعنا إلى التساؤل عن أشكال الترهيب الأخرى التي يمكن أن تتبع حيال المتردّدين على الشهر العقاري والتوثيق لتحرير توكيلاتٍ للرجل، في ضوء تخلي الحزب الذي كان يرأسه عنه مقابل البقاء طرفا في الحوار الوطني فقط، وربما بدون مقابل جدّي.

لا ندري كيف يمكن التفاؤل بجدّية نظام أطلق حواراً وطنياً عاماً، لم يناقش القضايا البنيوية للاقتصاد والسياسة المتأزّمة

تاسع تلك الملاحظات الاستهداف المبكر من النظام للمرشّحين المحتملين. ومن العجيب أيضا أن من يقودون المحروسة أكثر من عشرة أعوام بالمزايدة على الجميع بالوطنية يستخدمون برامج تجسّس إسرائيلية لمحاولة اختراق هاتف مرشّح محتمل، فقط لالتقاط ما يمكنهم استغلاله ضده لإثبات عدم وطنيّته، أو أي زلّة، فيكشفها النابهون من حملته لتتحوّل الواقعة إلى فضيحة دولية، وتتحرك شركة آبل لسد الثغرة في أجهزتها، ويتعرّف العالم أكثر إلى الطنطاوي مرشحا محتملا يواجه تحدّيات أمنية جمة.

الملاحظة الأخيرة، النظام الذي زور الانتخابات البرلمانية ليخرج الطنطاوي من مجلس النواب، وضيق سابقا على الحملة الانتخابية لخالد علي كي لا يصل إلى التوكيلات اللازمة، وعدّل الدستور الذي صنعه على عينه، ثم صرّح بـ"أنه تم بحسن نية"، ليمدّد لنفسه ويعدل الفترة الرئاسية نفسها، ويجمع السلطات كلها بيده، لا يعوّل عليه في ترك الرجل للوصول للسباق النهائي، وإن حدث فإنه لن يسمح أبدا بفكرة الضمانات الدولية للنزاهة والشفافية، في ضوء قضاء وأجهزة أمنية وعسكرية وبيروقراطية وسياق مؤمّم بالكامل للنظام على مساوئه. فليكن الله في عون كل معتقد باحتمال الجدّية، والأمل الوحيد أن يكون خلف طنطاوي تحالفٌ واسعٌ غير إقصائي من أفراد قابلين وقادرين على دفع ثمن السعي إلى الإصلاح، ويغتنم الطنطاوي الفرصة لإطلاق حوار مجتمعي حقيقي لصياغة برنامجه الانتخابي التوافقي، ولو إلكترونيا، وأن يغتنم الاستياء الإقليمي والدولي في تواصل جيد مع الخارج، للضغط باتجاه درجة مقبولة من درجات النزاهة والشفافية، وإن خفضت فقط النسبة التي يريد النظام أن يخرج المشهد بها، فإنها تعطي إشارة إلى أن لدى المجتمع أيضا أصوات معارضة، ولديه رموز غير عسكرية يمكن أن تتقدّم مستقبلا لقيادة البلاد، حتى وإن أصر القائمون بالحكم على تركها منكوبة.