توبة وطنية قبل 30 يونيو

توبة وطنية قبل 30 يونيو

06 يوليو 2023

(مروان قصّاب باشي)

+ الخط -

حينما عاد وائل غنيم بعد أسبوعين من احتجازه في بداية ثورة يناير بمعرفة قوى خفّية ومجهولة دائما، عاد إلى كاميرات المذيعة منى الشاذلي بالدموع. يومها، لم يكن لنا تلك العبقرية التي تسبق الأيام كي نفسّر مكنون الدموع وما هو خلفها، لأن الوضع في الأسبوعين الأولين للثورة كان في أيدٍ خفيّة وقويّة، وشاعريّة أيضا، ولديها القدرة على صناعة المشهد، فعاد وائل غنيم بالدموع إلى الكاميرا في استديو منى الشاذلي، وهي في كامل هندامها ورومانسيتها. كان يلزمنا جهاز نبيه لكشف كذب الدموع، كما كان يلزمنا أيضا جهازا لكشف الحركات السينمائية مع المذيعة نفسها كما حدث في حالة حمادة المصري أيضا.

الغريب أن مسلسل "حركات" وائل غنيم لم يتغيّر كثيرا خلال هذه السنوات رغم تغير سيناريوهات الظهور والفشل. وبعد تسع سنوات من الغياب المتقطّع والممنتج بحرفية عالية، عاد وائل "بالسلطانية"، أو "بالبطّيخة"، وقد مدّ يديه لخدمة بلاده مرتديا العباءة العادية التي يرتديها المواطن المصري البسيط جدا، وكان يلزم المشهد طاقية ولاسة قطنيّة بسيطة أيضا كي يكتمل الضحك، معلنا، في كلماتٍ بسيطة، أنه قد عاد إلى الحقّ في هذا الوقت بالذات في أيام مفترجة، فهل الحق لا يأتي لأصحابة إلا قبل 30/6 (2013) بأيام؟

نحن أمام حالة شاب عاد إلى الحقّ راميا السيجار في قعر الذاكرة، وراميا أيضا أمنيته أن يركب سيارة المقاول محمد علي، أمنية أخيرة له. واضح أن وائل يتدرّج بخفّة إلى مقام صوفي مصري متواضع جدا، ناسيا السيجار وسيارة المقاول محمد علي.

لاحظ أن الملحن هاني مهني الذي لم يكن ثائرا أبدا، إلا أنه حينما خاض تجربة السجن لأمر مادّي صرف، أحسّ أيضا بنعمة القرب من الناس، واقترب من الرياضة مع جمال وعلاء مبارك، وكم كانت أيامه سعيدة جدا في السجن، واقترب جدا من الله. واضح أن البساطة تقرّب العباد من الوطن والله والناس، ويندم الناس على أيامهم الأولى الهوجاء التي اقترفوا فيها تلك الذنوب المهولة في حقّ الوطن والناس كما أكد وائل غنيم. نحن أمام حالة "توبة وطنية"، توبة تستحق التأمل، كتوبة أصحاب المراجعات بعد مقتل أنور السادات في سجون حسني مبارك مع الفارق بالطبع، كتوبة خالد تلّيمة بعد ما صار مساعدا لمحافظ، فأين هو الآن؟ كتوبة إبراهيم عيسى بعدما ملأ قناة الجزيرة ثورة وكفاحا بالحمّالات من فوق كوبري قصر النيل في الأيام السعيدة الأولى لثورة يناير، ثم رجع عائدا يلم بقية المحاصيل، كتوبة عمّار علي حسن، بعدما عاد واستظل بـ"30 يونيو" محللا استراتيجيا سنوات في قنوات ساويرس والعربية والحدث، ثم تم ركنه في صحيفة المصري اليوم، مكتفيا بكتابات صوفية ويوميات لا تخدش حياء أحد، ثم تم تغييبه تماما بجرّة قلم. كتوبة ريم ماجد بعدما صمتت تماما داخل مطبخها وذكرياتها، كتسفير ليليان، ليلا خارج شقتها وخارج المطار والبلاد أيضا، كتوبة حمدين صباحي وجلوسه بجوار أسماكه وكنكة القهوة، كتوبة محمد أبو الغار وحصوله أخيرا على جائزة النيل، كتوبة جورج إسحق وقبوله وظيفة بحقوق الإنسان وصمته المطبق حتى صعدت روحه إلى السماء، كعزلة حسام عيسى في معتكفه العلمي سنوات، كعزلة رامي لكح في بلاد المهجر، كعزلة نخنوج مع بقية أسوده وقروده وبنادقه ومسدّساته بعيداعن أضواء شارع الهرم، كلها توبات تستحق الدرس والتأمل، كخروج عمرو موسى ثائرا لقطع شجرة قديمة في حي الزمالك معلنا تذمّره، ثم عودته بجوار فرع النيل، كعزلة الفريقين أحمد شفيق وسامي عنان، والبقية يصعب رصدها لضيق المساحة.

يُحكى في أدبيات العزلة في ستينيات عبد الناصر أن وكيل وزارة للشؤون الاجتماعية أصابه سهم التصوّف والرغبة الصادقة في القرب من الله وخدمة مقام ابن الفارض بجبل المقطم، ولم تكن للرجل أي ميول سياسية، فوافق عبد الناصر باسما، وأعفاه من العمل بعدما منحه معاشا مستحقا له بغير أي ظلم أو غضب، فناول الرجل مكافأة نهاية الخدمة ومعاشه ومفتاح شقته لزوجته وابنتيه، وذهب إلى مقام ابن الفارض بمكنسة وحصير وقلة فخّار، وظلّ يخدم المقام حتى توفاه الله. وكان أيقونة للزائرين من صوفية الشعراء والروائيين وبعض الكتّاب والمحللين وحتى الوزراء والدبلوماسيين لسنوات.

لا أعرف لماذا تذكّرت هذا الرجل بعدما رأيت صورة وائل غنيم بالعباءة البسيطة والبطّيخة، خصوصا أنه فقد عمله وأسرته بعدما عاد إلى مصر موجّها جهوده لخدمة بلاده في "حياة كريمة". وكم أتمنّى له الإخلاص والسكينة، فمن الممكن أن نجد في وائل بعد سنوات طويلة إبراهيم بن أدهم آخر، من دون أن تكون بجواره بطيخة أو عجورة أو منى الشاذلي.

720CD981-79E7-4B4F-BF12-57B05DEFBBB6
عبد الحكيم حيدر

كاتب وروائي مصري