تحدّيات تواجه الأحزاب الدينية في إسرائيل

تحدّيات تواجه الأحزاب الدينية في إسرائيل

17 نوفمبر 2022

إيتمار بن غفير يحتفل مع مناصريه في القدس بعد انتخابات الكنيست (2/11/2022/Getty)

+ الخط -

يبدو أن النتائج التي أفرزتها الانتخابات الإسرائيلية لم تأتِ على هوى الإدارة الأميركية، ومن الواضح أن احتمالية تشكيل حكومة يمين في إسرائيل تضم الأحزاب الدينية الثلاثة الفائزة بعدد المقاعد نفسها التي فاز بها حزب الليكود (32 مقعداً إجمالي مقاعد الأحزاب الدينية) تثير حفيظة الإدارة الأميركية، ومما يزيد من هذه التكهنات أن أعضاء في "الليكود" فائزين في الكنيست هم كذلك من المتدينين، ما قد يجعل الحكومة الإسرائيلية المقبلة، إن ضمت هذه الأحزاب، أقرب إلى الحكومة الثيوقراطية، إلى درجة سيكون فيها نتنياهو علمانياً متطرّفاً داخل حكومةٍ كهذه.

نتائج الانتخابات في عرف المحللين الإسرائيليين من المنتمين إلى التيارات الدينية كانت بمثابة ثورة؛ فعقوداً طويلة كان النظر إلى الأحزاب الدينية أنها الابن غير الشرعي للسياسة الإسرائيلية، وهو الإحساس الذي كان يسيطر على هذه الأحزاب وجمهورها. أما الآن، فتغيّرت الأمور تغيراً كاملاً إلى درجة أن الأحزاب الدينية ستكون، على الأرجح، جزءاً حقيقياً من الأغلبية الحاكمة، لا جزءاً هامشياً تكون وظيفته إكمال النصاب القانوني لتشكيل الحكومة مقابل الحصول على مكاسب خاصة بجمهورها وحده، ما قد يجعل الحكومة المرتقبة تصنّف أنها حكومة دينية، وهو ما لم يكن ليخطر على خيال أحد في الماضي، وهذا ما يجعل الأمر بمثابة ثورة كاملة.

يهودية الدولة كالسبت والطعام الكاشير، وقوانين الزواج وغيرها، ستتصدّر جدول أعمال الحكومة الجديدة

وإذا سارت الأمور على النحو المتوقع، فإن قضية الحالة الدينية في إسرائيل، ومدى التزامها، كدولة يهودية، بالممارسات التي تعكس يهودية الدولة كالسبت والطعام الكاشير، وقوانين الزواج وغيرها، ستتصدّر جدول أعمال الحكومة الجديدة. علاوة على ذلك، تضع الأحزاب الدينية نصب أعينها أن الأقلية اليسارية، حتى بعد صعود اليمين إلى الحكم على يد مناحيم بيغن في عام 1977، كانت غالباً هي التي تسيطر على المؤسسات التعليمية والثقافية والقانونية، والخدمات المدنية، إضافة إلى أن اليسار كان هو الذي يضع المناهج التعليمية وفق رؤيته التي تهتم بالتقليل من موضوعات التوراة والمحتوى الديني، حتى إن الكاتب الإسرائيلي، إيرز تدمور، كتب كتاباً يصف هذه الحالة بعنوان "لماذا تصوّت لليمين وتحصل على اليسار؟".

ولم يكن ذلك يُعجب اليمين الديني بالطبع. وبالتالي، حانت الفرصة لهذا التيار لكي يوقف هذا الوضع، وأن يغيّره بما يعبّر عن اختيارات الناخبين نحو نشر مظاهر التدين في المجتمع، أو مثلما يحلو لبعض مفكّري الأحزاب الدينية توظيف العبارة التوراتية في سفر الخروج "أنتم تكونون لي مملكة كهنة، وأمة مقدّسة". ولكن هذه الفرصة تصطدم بعدد من التحديات التي تواجه الأحزاب الدينية في إسرائيل في تجربتها المنتظرة، والتي يرصدها مفكّرو التيارات الدينية هناك؛ لقد كانت الأحزاب الدينية سابقاً تبحث عن مكاسب تخصّ مجتمع المتدينين الذي تمثله فقط، وتتبع في ذلك سياسةً أملتها عليهم العبارة التلمودية "لننقذ ما نستطيع من أيديهم"، وهي سياسةٌ كانت تنطلق من إحساس قبلي يعبّر عن فكر الأقلية المغلوبة على أمرها، التي تتحرّك بشعور المنعزل، والحذر من الاندماج الكامل في المجتمع الإسرائيلي، بحكم فكرها وطبيعتها وثقافتها وعاداتها المختلفة عما تسير عليه غالبية المجتمع الذي كان متدينون كثيرون ينظرون إليه بوصفه مجتمعاً منحلاً، وهذا كان يدفع جمهور الأحزاب الدينية إلى ترك بعض المجالات لسيطرة العلمانيين كالمجال الثقافي، والإعلامي، والأكاديمي، مع استثناءات محدودة بالطبع. لم تعد هذه السياسة اليوم ذات جدوى، لأنها سترتدّ بالسلب على التيار الديني كله، لأنهم، إن تشكلت هذه الحكومة، سيصبحون هم الممسكين بالسلطة. وبالتالي، سيكون عدم نجاح هذه السلطة خسارة لن يتحمّلها المتدينون فقط، بل اليهودية بشكل عام. ومن هنا، فإن كلاً من المكسب أو الخسارة سيكونان كبيرين تبعاً لحجم ما تحققه الأحزاب الدينية من نجاح أو فشل في تجربتها المقبلة في الحكم.

صعود اليمين الديني في إسرائيل يرتبط، في جانب منه، بزيادة أعداد المتدينين

لم تكن هذه الانعزالية شعوراً ذاتياً فحسب، بل واكبتها حركة رفض داخلية وخارجية؛ فعلى المستوى الداخلي هناك تخوّف كبير لدى العلمانيين والليبراليين في إسرائيل من احتمال أن يكون للأحزاب الدينية هذا الحجم من المشاركة في الحكومة المرتقبة، ويرون أن ذلك سيكون مصدر تهديد للديمقراطية الإسرائيلية ومكانتها الدولية. في هذا السياق، زعم الصحافي الإسرائيلي، عميت سيغال، أن الرئيس الإسرائيلي هرتزوغ طالب كلاً من رئيس الحكومة المنصرفة لبيد ووزير الدفاع غانتس، في أثناء مشاوراته معهما بعد ظهور نتائج الانتخابات، أن يدرسا إمكانية أن يكونا جزءاً من حكومة موسّعة، ورفضا. ولاحقاً نفت الرئاسة الإسرائيلية، وكل من لبيد وغانتس، حدوث ذلك من الأصل. وأكّدت الرئاسة أن ما يفعله الرئيس هو التباحث مع قادة الأحزاب لمعرفة تصوّراتهم عمن يُكلَّف لتشكيل الحكومة.

وقد نقل كذلك أن الرئيس الإسرائيلي، في لقاء له مع بعض أعضاء حركة شاس، تحدث عن أيتمار بن غفير، وكيف أن مواقفه تثير مخاوف الدول، لكنه طالب وفد حركة شاس بأن يكون كلامه معهم عن بن غفير سرّياً، لأنه لا يريد أن يسبب ذلك أي أزمات داخلية، ولم ينتبه الرئيس إلى أن الأجهزة الصوتية لم تكن مغلقة، وأن ما يقوله قد وصل إلى الجميع.

وسواء كان ما حدث من الرئيس قد جرى بقصد أو بغير قصد، فإنه يكشف حجم التخوّف الكبير من التجربة المقبلة، وخصوصاً من أن يكون بعض أعضاء الصهيونية الدينية الفائزين في الانتخابات جزءاً من الحكومة، إلى الدرجة التي جعلت هيرتزوغ يعبّر عن رأيه بهذا الوضوح، على الرغم من أنه لا يملك أي سلطة أو صلاحية لمنع مشاركة بن غفير أو غيره في الحكومة، باستثناء إبداء الرأي في مباحثاته مع رؤساء الأحزاب. يُضاف هذا الأمر إلى ما أشارت إليه صحف إسرائيلية من ضغوط تبذلها شخصيات أميركية ضد الائتلاف المحتمل مع سموطريتش وبن غفير، علاوة على ما أعلنه مسؤول أميركي من أن حكومة مثل هذه ستضر بالعلاقات بين البلدين.

احتمالية تحقيق الأحزاب الدينية مزيداً من الصعود في المستقبل القريب تظل قائمة، إذا تمكّنت من تقديم أداء جيد

لكن الشواهد تقول إن الأحزاب الدينية تزداد قوة بمرور الوقت، وما لن تستطيع فعله اليوم ستتمكّن من فعله في المستقبل غير البعيد؛ فصعود اليمين الديني في إسرائيل يرتبط، في جانب منه، بزيادة أعداد المتدينين هناك؛ إذ يصل عدد الأبناء في الأسرة الواحدة في أوساط هذه الفئة إلى ستة أو أكثر، ويقلّ هذا العدد إلى واحد أو اثنين فحسب، في أوساط جمهور العلمانيين، وهذا يعني أن دور المتدينين سيشهد تصاعداً في المستقبل، إلى درجة أن من المتوقع، في ظل هذه المعدلات، أن يصبح المتدينون هم الأغلبية خلال الخمسين عاماً المقبلة.

كذلك، من المهم أن نضع في الاعتبار أن الواقع في إسرائيل حالياً يشهد تغيّراً واضحاً لمصلحة المتدينين؛ إذ يلتزم 60% من ضباط الجيش الإسرائيلي بالمظهر الديني، ويعرّفون أنفسهم بأنهم متدينون، وحينما يترك هؤلاء الخدمة في الجيش يتولون مناصب في الحكومة، أو في مجال التكنولوجيا، أو العمل الأكاديمي، وهذا يعني أن المتديّنين بمرور الوقت سيسيطرون أكثر فأكثر على مناحي الحياة المختلفة في إسرائيل. وبالتالي، صعود الأحزاب الدينية، إن لم يكن قد حدث في هذه الانتخابات، كان سيحدث عاجلاً أو آجلاً، بل الأكثر من ذلك أن احتمالية تحقيق هذه الأحزاب مزيداً من الصعود في المستقبل القريب تظل قائمة، إذا تمكّنت من تقديم أداء جيد تقنع الشارع الإسرائيلي من خلاله بأنها جديرة بما وصلت إليه من نتائج.

ويعوّل مفكرو الأحزاب الدينية الإسرائيلية على أن اليهودية التقليدية ترفض تماماً نموذج الحكم الديني الإيراني، وبالتالي، لن تكون الأحزاب الدينية في إسرائيل مشابهة للتجربة الإيرانية، وستحاول أن تتخطّى هذه العزلة التي فرضتها على نفسها، وفرضها عليها المجتمع. لكن السنوات المقبلة ستكشف إلى أي مدى ستكون هذه الأحزاب قادرة على أن تنجح في ذلك، والأرجح أنه لن يكون في مقدورها الاندماج في المجتمع، وأن جهدها سيكون منصبّاً أكثر على كيف تدخل المجتمع معها في تلك العزلة، أو بمعنى آخر كيف تجعل المجتمع يندمج مع أفكارها... وهنا تحديداً يمكننا أن نفهم العبارة التوراتية التي يستخدمونها "مملكة كهنة، وأمة مقدّسة".

أحمد الجندي
أحمد الجندي
كاتب مصري، أستاذ الدراسات اليهودية والصهيونية في جامعة القاهرة، له كتب ودراسات حول الملل اليهودية المعاصرة وأيديولوجيا تفسير العهد القديم.