بين محورَي التطبيع والممانعة

بين محورَي التطبيع والممانعة

02 نوفمبر 2020
+ الخط -

نطالع عبر صفحات التواصل الاجتماعي جدالات عبثية، تتمحور حول أفضلية أحد محوري الممانعة والتطبيع على الآخر، وهو ما يتجاهل بنية كلا المحورين أولاً، ومدى توافقهما الاستراتيجي ثانيا، بالإضافة إلى مدى تطابق بنيتهما الداخلية كذلك، وتشابه علاقتهما مع الوسط الخارجي، سيما مع الدول الأكثر نفوذا وهيمنة. كل ذلك من دون التقليل من مواضع (وأماكن) التمايز والاختلاف بين كل منهما، بعيداً عن التهويل والمبالغة في أهمية هذا التمايز على قضايا شعوب المنطقة ومصالحها، لا سيما بعد اندلاع ثورات الربيع العربي في العام 2010، وفي أعقاب إعلان التطبيع الإماراتي، ومن ثم البحريني.

فمن الواضح، وفق هذه المحاكاة المتسرعة، أفضلية محور الممانعة على محور التطبيع الإماراتي، بما يخص الخطاب السياسي والإعلامي والتطبيعي مع الصهيونية. ولكن هل هذا كافٍ لنسج علاقة تحالفية مع محور الممانعة؟ وهل التحالف مع محور الممانعة كاف كي يتمكّن الشعب الفلسطيني من استعادة حقوقه المستلبة؟ بمعنى هل إيران ومحور الممانعة جادّون وصادقون في دعم نضال الشعب الفلسطيني، حتى تحرير كامل التراب الفلسطيني واستعادة كامل الحقوق المستلبة؟ طبعا، لا تكفي النظرة المتسرّعة السابقة، للإجابة عن جميع هذه الأسئلة. وهنا مكمن خلافي واعتراضي عليها، بل وتخوفي منها أيضا، كونها تحاكي مشاعر الغالبية العظمى من الفلسطينيين والعرب المعنيين بالحق العربي والفلسطيني، الرافضين للخطوة الإماراتية، والباحثين عن أي مرتكز إقليمي أو دولي يستندون إليه ليعلقوا آمالهم عليه.

هل التحالف مع محور الممانعة كاف كي يتمكّن الشعب الفلسطيني من استعادة حقوقه المستلبة؟

لذا، وبهدف الإجابة عن الأسئلة المحقة السابقة، لا بد من الانطلاق في فهم التحالفات والعلاقات الدولية والشعبية من زاوية وطنية وإنسانية شاملة وكاملة، حتى ولو حصرناها في إطار وطني مجتزأ، على الرغم من خطأ هذا الفصل القسري، وعدم اتفاق الكاتب معه، كحصره في إطار المصلحة الوطنية الفلسطينية مثلاً، وتجاهل المصالح، الوطنية السورية واللبنانية واليمنية ... إلخ، إلا أنه كاف لتوضيح سلبياته العديدة؛ فمن زاوية فلسطينية بحتة، وبتجاهل أهمية الدور العربي ومحوريته في قضيتنا العادلة؛ ومدى تداخل القضية الفلسطينية بقضية تحرّر مجمل شعوب ودول المنطقة، وتطور هذه الشعوب وتنميتها؛ نجد أن المصلحة الوطنية الفلسطينية تقتضي تأسيس حركة تحرر وطني فلسطيني شامل، ودعمها وتطويرها، بما يتجاوز الخلافات والتقسيمات الدينية والطائفية المضرّة بوحدة الشعب الفلسطيني أولاً، وبوحدة حركة التحرر الفلسطيني وفاعليتها ثانياً، وبالصراع مع الدولة الصهيونية ثالثاً، فهل تدعم إيران ذلك؟

سلبيات ومخاطر عديدة بارزة في تجارب الدعم الإيراني خارج فلسطين، سيما في لبنان والعراق واليمن والبحرين

هناك سلبيات ومخاطر عديدة بارزة في تجارب الدعم الإيراني خارج فلسطين، سيما في لبنان والعراق واليمن والبحرين. لكن وبهدف الاختصار والتبسيط، تسلط المقالة الضوء على التجربة اللبنانية، نظراً إلى تداخل الحركة الوطنية الفلسطينية ونظيرتها اللبنانية في سبعينيات القرن المنصرم وثمانينياته، الأمر الذي يسهل على الفلسطيني فهم المتغيرات التي فرضتها إيران، ممثلة بذراعيها اللبنانيين، حزب الله وحركة أمل. لقد فرض حزب الله على مجمل فصائل العمل الوطني اللبناني وقواه انسحابا قسريا من مجمل العمل العسكري، ومن البلدات والمناطق الحدودية على طول الخط الفاصل بين لبنان والدولة الصهيونية، ليحتكر وحده العمل الميداني السياسي والنضالي فيها، ما سرّع وعمق من عملية تطييف المنطقة، وربط حاجات قاطنيها به ظاهريا، وبإيران عمليا، على اعتبارها الطرف الممول لجميع التفاصيل الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، وهو ما سهل لاحقا فرض توجهات إيران ومصلحتها على مجمل مواقف الحزب، وحاضنته الاجتماعية التي بات من شبه المستحيل عليها الانفكاك عنها. الأمر الذي عزّز من البنية العدائية النقيضة طائفيا وسياسيا في مجمل لبنان، حتى في المناطق والبيئات الاجتماعية التي حضنت سابقا حركة التحرّر الوطني والفلسطيني.

هل إيران ومحور الممانعة جادّون وصادقون في دعم نضال الشعب الفلسطيني، حتى تحرير كامل التراب الفلسطيني واستعادة كامل الحقوق المستلبة؟

وعليه، سوف يؤدي التوغل الإيراني إلى تصعيد الصراع الفلسطيني – الفلسطيني، حتى في أوساط القوى التحرّرية المقاومة، إذا مانعت تلك الأخيرة، أو حاولت رفض هيمنة إيران على الشعب الفلسطيني، كما سوف يصعد الصراع الاجتماعي كذلك بين المكونات الاجتماعية المدعومة إيرانيا وغير المدعومة تبعا لسياسة الدعم الموجه فئويا، الأمر الذي سوف ينعكس على وحدة الصف المقاوم، وقد يسفر عنه صراع عسكري وأهلي داخلي، لا ينتهي إلا بانتصار ساحق لطرفٍ على آخر، ويحمل، في طياته، بذور تجدّده مستقبلاً عند تلمس أي تبدّل في موازين القوى الإقليمية. وعليه، يبدو أن أولوية المعركة الإيرانية تتمثل في فرض هيمنة (وسيطرة) القوى التابعة لها فلسطينياً أو لبنانياً أو سواهما، على حساب معركة التحرير. كما أن تطييف العمل المقاوم الفلسطيني خدمة غير مباشرة للصهيونية، فهو يعزّز من بيئتها العنصرية القائمة على خطاب ديني يهودي، بالإضافة إلى تحييده جزءا مهما من حاضنة العمل المقاوم التحرري الفلسطيني والعربي والعالمي، وهو ما يفقدنا أحد أهم عوامل قوتنا المتمثلة في متانة القاعدة الشعبية الداعمة للحق الفلسطيني والمقاومة الفلسطينية الوطنية واتساعها.

سوف يؤدي التوغل الإيراني إلى تصعيد الصراع الفلسطيني – الفلسطيني، حتى في أوساط القوى التحرّرية

وأخيرا، لا بد من المرور على دور إيران في تحرير جنوب لبنان، لإلقاء نظرة ولو سريعة على إمكانية تحقيق ذلك فلسطينيا؛ فمن ناحيةٍ أولى، علينا الانتباه إلى التباين الكبير بين معركة تحرير جنوب لبنان ومعركة تحرير فلسطين أو حتى جزء صغير منها، فالأولى لا تشكل قاعدة صلبة وأساسية في بناء المشروع الصهيوني، ما يفتح الباب أمام إمكانية التخلي عنها ولو مرحليا، على عكس الأرض الفلسطينية. كما أن هناك تباينا في طبيعة المرحلة إقليميا، حيث لعب تحرير جنوب لبنان دورا مركزيا في رفع أسهم الحزب عربيا، وبالتالي إيران، وكان بوابة للتمدد الإيراني عربيا. أي أن إيران كانت في حاجة لنصر ميداني عربي في تلك المرحلة، بينما تخوض إيران اليوم معركةً طائفيةً واضحة، للسيطرة على دول المنطقة وشعوبها، لتعزيز مكانتها وهيمنتها عربيا، ويبدو جليا نهبها ثروات العراق. وهي معركةٌ لا تمت بأي صلة لمعركة تحرير الأراضي العربية المحتلة، سواء في سورية أو فلسطين، فقد اختلفت أولويات إيران وتراجعت حاجتها لإنجاز ميداني عربي يفتح لها باب الولوج عربيا. أي أن إيران لا تكترث اليوم لتحرير فلسطين، بقدر ما تكترث لبسط نفوذها في المنطقة ونهب ثرواتها، وهو ما يتطلب إيجاد أذرع محلية تدين لها بالطاعة والولاء والتبعية المطلقة، فلو كانت معنية بالتحرير حقا لشهدنا مقدّمات ذلك، انطلاقا من غزة المسيطر عليها من فصائل وقوى محسوبة على إيران، وطبعا لن نشهده مستقبلاً عبر دعمها والتحالف معها، لأن مشروعها الحقيقي في الأرض العربية والفلسطينية ضمنا، يسير في اتجاه تأبيد سيطرة القوى الاستبدادية والطائفية التابعة لها، بما يضمن استمرار تخلف المنطقة وانقسامها وإفقارها، كما يحصل في العراق وسورية المنكوبتين بإيران وأذرعها الطائفيين والاستبدادين، وهو ما يصبّ في صالح الصهيونية ورعاتها.

75812723-2689-4553-B56D-72CE271905DB
حيّان جابر
كاتب فلسطيني، مشارك في إعداد ملحق فلسطين.