انقلاب الجيش الموازي السوداني ودولته

انقلاب الجيش الموازي السوداني ودولته

30 أكتوبر 2021
+ الخط -

من الشهادات التاريخية التي، ربما، لا نظير لها في المكتبة العربية، رائعة حسن العلوي "العراق: دولة المنظمة السرية" (دار روح الأمين، لندن، 1990)، وفيه يحكي العلوي، بوصفه شاهد عيان، كيف تمكّن التنظيم السري البعثي من ابتلاع الجيش العراقي ذي التقاليد العريقة، وهو ما جعل صدّام حسين يتمكّن من السيطرة بسهولة على بلد شديد التعقيد عدة عقود. وقد أصبح الجيش العراقي، في النهاية، مجرّد رقم صغير في بنية سلطوية يُمسك مفاصلها "جيشٌ موازٍ" تضخم حتى أصبح "دولة موازية". وفي السودان، كان تبلور الشكل التنظيمي لمليشيات نظام الرئيس المعزول، عمر البشير، في كيان "شبه نظامي" هو "قوات الدعم السريع" لحظة اكتمال تأسيس نواة "الدولة الموازية".

وبعد ساعاتٍ من الانقلاب السوداني، بدأت مؤسسات إعلامية غربية مهمة الكشف بشكل أكثر تفصيلًا عن الإمبراطورية الاقتصادية للجيش السوداني. وللمرة الأولى، لعبت عواصم غربية دورًا مؤثرًا لإرغام الجيش السوداني على تصفية "الدولة الموازية" التي يملكها. وعند هذه النقطة، وصلت عدة محاولات للتحول الديمقراطي العربي إلى طريق مسدود. وشكّل قرار الكونغرس الأميركي، قبل أيام، جعل المساعدات العسكرية للجيش السوداني مشروطة بموافقة المكوّن المدني، "تحولًا تاريخيًا".

بقي الدور المهيمن للمؤسسة العسكرية في عدة دول عربية من القضايا الخلافية الأكثر خطورة، بين أميركا والقوى الأوروبية الرئيسة

عقودا، بقي الدور المهيمن للمؤسسة العسكرية في عدة دول عربية من القضايا الخلافية الأكثر خطورة، بين أميركا والقوى الأوروبية الرئيسة. وكان الدعم الأميركي لتقليص دور عسكر تركيا التجربة الوحيدة التي فرضت فيها أميركا حساباتها على الأوروبيين، والمحصلة ما نراه اليوم: استقطاب حادّ في علاقات تركيا بفرنسا واليونان، واستقطاب أقلّ حدّة في علاقتها بألمانيا، وتقارب تركي روسي و... وفرنسا، الأكثر تشدُّدًا في الدفاع عن دورٍ مهيمنٍ للمؤسسات العسكرية في عدة دول عربية، نقلت ساحة المواجهة مع الرؤية الأميركية، لتحمل عبء التحرك على الأرض، إلى دول عربية توفر الدعم السياسي والمالي والمليشاوي، لتدمير "الربيع العربي"، بوصفه المواجهة الأكبر مع الحكم العسكري في المنطقة. وعلى المستوى الاستراتيجي، ترى أميركا أن الاستقرار يمكن أن يتحقّق وأن يصبح مستدامًا، فقط، عبر قوى اجتماعيةٍ تعبّر عن "التيار السائد"، من دون شروطٍ مسبقة، وأن الاستناد في حكم الدول المهمة في المنطقة إلى استراتيجية "القلاع العسكرية المتقدّمة" معاكس لمسار التاريخ. تأمل إصرار إسبانيا "المتشنّج" على احتلال سبتة ومليلية مقابل القرار الأميركي بالانسحاب من أفغانستان بكل آثاره في المنطقة والعالم. وقرار الانقلاب العسكري في السودان، والذي لا يخفي الفريق أول عبد الفتاح البرهان أنه تم بدعم دول في المنطقة، سابقة تاريخية في منطقةٍ كانت الانقلابات العسكرية فيها، عقودا، لا يُتخذ قرارها إلا في العواصم الغربية.

اللجوء إلى استراتيجية الطوارئ، المحاكم الاستثنائية، التفويض الشعبي، امتهان الدستور، رفض المسارات التي يحكمها الصندوق .. قد تكون المرحلة الأخيرة من مراحل الرفض التام لـ "دولة القانون".

ومنطق "القلاع العسكرية المتقدّمة" رفضه الرئيس الفرنسي شارل ديغول في الملف الجزائري، برفضه الاحتفاظ بالجزائر عبر احتلال استيطاني، خوفًا من "فلسطين أخرى" في شمال أفريقيا. والممارسات التي تتوالى في بعض دول "الربيع العربي"، بالاعتماد على سلاح الانقلابات المدنية والعسكرية، فصل من فصول التدافع بين سياساتٍ "واقعيةٍ"، لا يجد مناصروها مشكلةً في دعم أنظمة قمعية، وسياساتٍ "انتحاريةٍ" تتبناها، أولًا، عواصم عربية ترى أن القمع ليس كافيًا وأن ما بقي من "الحد الأدنى من الدولة" سيظل ثغرةً يمكن أن يمرّ منها "عفريت التغيير"، والحل عند هؤلاء هو ما يفعله البرهان وآخرون، (مع اختلاف في التفاصيل)، مليشيا تحيّد الجيش أو تسيطر عليه سيطرة تامة أو تحل محله، وتكون، باستخدام الهيمنة الاقتصادية للجيش، نواة "دولة موازية"، لا تسمح إلا بمؤسساتٍ ديكورية.

واللجوء إلى استراتيجية الطوارئ، المحاكم الاستثنائية، التفويض الشعبي، امتهان الدستور، رفض المسارات التي يحكمها الصندوق .. إلى آخر القائمة المعروفة، قد تكون المرحلة الأخيرة من مراحل الرفض التام لـ "دولة القانون". وكما قال أحد الإعلاميين المصريين القريبين من النظام، متحسرًا، أعطت الدولة الوطنية المصرية في النصف الثاني من القرن العشرين الطبقة الوسطى الكثير، وعند أول اختبار أمام الصندوق اختاروا "خصومها". تلك هي المعضلة في عمقها، والحلول التي يجري اعتمادها اليوم، وبخاصة في السودان وتونس، حتمية العودة إلى مرحلة تأديب الشعوب وتربيتها قبل منحها أي حقوقٍ سياسية مهما كانت، والتنكّر التام لمقولة "الدولة" والتمكين غير المشروط لـ "الدولة الموازية" إلى أن تتعلّم الشعوب الأدب في أي اختيار سياسي قادم.