الحقيقة "ذكرى" في اعترافات متأخّرة

الحقيقة "ذكرى" في اعترافات متأخّرة

06 ابريل 2024

(محمد شبعة)

+ الخط -

لا تنفصل الحقيقة عن السياسة، وبدونها تستعصي رواية التاريخ ويستعصي فهمُه. وخلال العصر الحديث، استطاعت الدولة الحديثة، ربما أكثر من أي عصرٍ سابق، إخفاء الحقيقة وتحريفها، وقد ترتّب على هذا شيوع ظاهرة إعادة بناء السرديات التاريخية بناءً على ما تكشفه وثائق كانت محجوبة، أو اعترافاتٌ متاخّرة. وما يحدُث في الحالتين عند كشف الحقيقة يكون مجرّد "استعادة ذكرى"، بعد أن يكون من زوّر الحقيقة التاريخية أو حجَبها قد حقّق هدفاً سياسيّاً غير مشروع. ومع تأخّر الكشف عن الحقيقة أو اكتشافها أو الاعتراف بها يصبح الأمر مجرّد استعادة "ذكرى" بـ "رواية أخرى".

أحد أهم نماذج هذه الظاهرة مجموعة مؤرّخين إسرائيليين عُرِفوا بـ "المؤرّخين الجدد"، والوصف أطلقه المؤرّخ بِني موريس في مقال نشره في 1988. وقد دعا هؤلاء إلى إعادة دراسة تاريخ المشروع الصهيوني ودولته وفق معايير ومقاييس أكثر حياداً، ما أسهم في زعزعة مسلّمات تاريخية اعتمدتها الرواية الصهيونية والإسرائيلية، لكن الكشف والاكتشاف والاعتراف بقي أقرب إلى الترف الفكري الذي لم يغيّر شيئًا من حقائق الواقع، وبقيت الأكاذيب صاحبة الدور الرئيس في صناعته.

وقد شهدت باريس، أخيرا، واقعتين من هذا النوع، تنطوي إحداهما على اعتراف خطير، ففي بيان أصدره قصر الإليزيه اعترف الرئيس إيمانويل ماكرون أن فرنسا "كان بإمكانها وقف الإبادة الجماعية التي وقعت عام 1994"، لكنها "لم تكن لديها الإرادة"، حسبما أفاد قصر الإليزيه، الخميس، قبيل الذكرى الثلاثين لبدء المذابح. وذكر بيان الإليزيه، أنه "في 27 مايو/ أيار 2021، اعترف رئيس الجمهورية في كيغالي بمسؤولية فرنسا في الإبادة الجماعية للتوتسي".

الممتلئون غروراً بقوتهم أصبحوا أكثر حاجة إلى التوقف عن التلاعب بـ "الحقيقة"

وكانت وسائل إعلام عديدة نشرت في 4 مارس/ آذار 2024 أن منظمّات غير حكومية وجمعيات، طالبت بأن تعترف الدولة الفرنسية بـ "مسؤوليتها" عن ممارسة التعذيب خلال حرب الجزائر (1954-1962). وقدمت نحو 20 منظمة ملفًا إلى الإليزيه جاء فيه أن "سلوك طريق فهم الدوامة القمعية التي أدت إلى ممارسة التعذيب، الذي شكّل الاغتصاب أداته الأساسية (..) ليس تعبيرا عن الندم، بل هو من عوامل الثقة بقيم الأمة". وكان قصر الإليزيه قال في بيان في 18 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي إن "أقلية من المقاتلين نشرت الرعب ومارست التعذيب". وبقي الاعتراف المتأخّر في نظر حقوقيين فرنسيين "غير مكتمل، لأنه لا يحدّد سلسلة من المسؤوليات، خصوصاً في أعلى هرم الدولة". وللمرّة الأولى، أصبح هناك حديث واضح أن التعذيب لم يكن خطأ أقلية، بل جرى التنظير له "كنظام حرب وتعليمه وممارسته والتستر عليه وتصديره من الحكومات الفرنسية، الأمر الذي ينطوي على مسؤولية الدولة الكاملة"، والدليل الذي قدّمته المنظمّات الحقوقية أن التعذيب "دُرِّس منذ عام 1955" في المدارس العسكرية الكبرى مثل: "سان سير".

وحجم التغيير الهائل الذي طرأ على صورة الاتحاد السوفييتي بعد انهياره مطلع تسعينيات القرن الماضي، (بسبب الإفراج المتتابع عن وثائقه السرية) كان درسًا مهمًا متعدّد المستويات: معرفيّاً وأخلاقيّاً وسياسيّاً، ولعبة الاختباء وراء مفاهيم مثل "الغموض البنّاء" والامتناع عن التعليق أو حتى التكذيب المتبجح، بدأت تفقد جدواها، وبخاصة مع تكرار وقائع انهيار السرديات المزوّرة وظهور شهادات "التوثيق المضادّ" التي تناقض "الأكذوبة السائدة". والممتلئون غروراً بقوتهم أصبحوا أكثر حاجة إلى التوقف عن التلاعب بـ "الحقيقة" (حجباً أو تحريفاً)، وبخاصة أن اقتياد التاريخ بالأكاذيب وأنصاف الحقائق جعل العالم، خلال نصف قرن مضى، أمام مواريث ثقيلة من الجرائم التي كان يُراد لها أن تبقى مقبورة.

ولقد كان الهدف الأول دائماً الحفاظ على مشروعية المكتسبات غير المشروعة التي تحققت باستخدامها. ولجوء جنوب أفريقيا إلى محكمة العدل الدولية، وما تلاه من استدعاء صفحات من التاريخ ممتلئة بالدم، يعيد الاعتبار إلى "الحقيقة التاريخية". والاصطفاف الذي يتّسع بالتدريج، بدءًا من تلاسن ألمانيا وناميبيا، وصولاً إلى تحرّك أيرلندا للانضمام إلى جنوب أفريقيا في "العدل الدولية" يطرح بقوّة احتمال أن تشهد العلاقات الدولية سلسلة سجالات رسمية بشأن الحقائق التاريخية. وفي بعض الحالات، لا يُستَبعَد أن تسفر الاعترافات المتأخّرة عن أعباء قانونية ومطالبات بالتعويضات.

وفي صراع استخدمت في أحدث حلقاته أكذوبة أن مقاتلي حركة حماس ذبحوا 40 طفلاً إسرائيلياً رضيعًا، تكون الحقيقة كابوساً مخيفاً.