النفوذ الأجنبي في أفريقيا وحمّى الانقلابات

النفوذ الأجنبي في أفريقيا وحمّى الانقلابات

04 اغسطس 2023
+ الخط -

تتصاعد حمّى الانقلابات في دول أفريقيا جنوب الصحراء، وتحديدا في الحزام الخاضع للنفوذ الفرنسي، ومع الانقلاب أخيرا في النيجر تكون المنطقة قد عرفت خطّا متصلا من الأنظمة العسكرية، يمتد من النيجر ومالي وتشاد وصولا إلى بوركينا فاسو وجمهورية أفريقيا الوسطى، ولا تخفي كل هذه الأنظمة ميلها إلى الاستعانة بالنفوذ الروسي المتعاظم في القارة.

يدرك المتابع لتاريخ القارّة السمراء أنها كانت دوما خاضعة لثنائية مدمّرة طرفاها العسكر والتدخل الأجنبي، وكلاهما يتبادلان المنافع. وفيما توقفت الانقلابات العسكرية في باقي قارّات العالم أو كادت، تتواصل تطلعات الجيوش الأفريقية للحكم والسيطرة في ظل دول تجمع بين غنى الموارد وفقر الشعوب في مفارقة عجيبة تختصّ بها هذه القارّة، فقد ارتبطت الانقلابات العسكرية كظاهرة بالدول الأقل تطوّرا، والتي تعاني تخلّفا على مستوى البناء السياسي، وهو ما يدفع إلى القول إن منطق الانقلاب يجد مبرّره في ظل وضعياتٍ غير طبيعية تشهدها الدول غير المستقرّة من حيث بنية نظامها أو من حيث تحديد آليات التداول على الحكم فيها. ولهذا وبنظرة سريعة إلى خريطة الانقلابات العسكرية، نلاحظ أن الدول التي خضعت للاستعمار الغربي كانت الأكثر عرضة لداء الانقلاب باعتبار أنه في غياب مجتمع مدني وسياسي قوي وتهميش المنظومة الحقوقية يلعب العسكر دورا مركزيا بوصفه القوة الأكثر هيكلة وانسجاما وقدرةً على التصرّف والحسم خارج الأطر الشرعية المعتادة.

الانقلابات جميعها لا تخلو من علاقة مع أطراف أجنبية

ويتم تسويق كل انقلاب للشعب أنه فرصة للخروج من أزمة سياسية، أو لتحرير الشعب من ظروف سيئة، رغم أن الوقائع تكشف أن الانقلابات هي مرض سلطة، وليست علاجا للمشكلات، لأنها غالبا ما تؤدّي إلى بناء أنظمة مستبدّة ومغلقة، والتي حتى وإن جلبت الاستقرار السياسي فترة، فإن النتيجة الأكثر شيوعا أن الانقلابات تُفضي إلى ثوراتٍ لاحقة، أو إلى حروب أهلية، كما نرى في النموذج السوداني، أو سلسلة من الانقلابات المتلاحقة (شهدت بوركينا فاسو على سبيل المثال أربعة انقلابات عسكرية منذ سنة 2016، منها انقلابان سنة 2022)، ذلك أن الانقلاب، ومهما كان الشعار الذي يرفعه أو الأرضية التي ينطلق منها، يظل فعلا غير مشروع، لأنه يقوم على القوة، والقوة تؤسّس واقعا ولا تضفي شرعية، فهناك فرق بين الأمر الواقع (القائم على الإلزام والخوف) والأمر المشروع، وهو أن يكون الحكم نابعا من إرادة المحكومين، وأن يبقى الحقّ قيمةً أخلاقية وقانونية تتوفر للمواطن من دون إلزام أو خوف، بل من خلال الشعور بالواجب.

ولهذا، كان من الطبيعي أن يكون الهاجس المركزي لدى كل الانقلابيين كيف يمكن إكساب فعلهم الانقلابي صيغة شرعية، من خلال اتخاذ خطوات لاحقة، سواء من خلال تشريك بعض المدنيين معهم في السلطة، أو من خلال إجراء انتخابات شكلية، حيث يتحوّل قائد الانقلاب إلى رئيس دولة. ويتم في هذا السياق توظيف شعارات مختلفة لاكتساب الشرعية، إما عبر إيجاد عدو داخلي يهدّد الوحدة الوطنية، أو عدو خارجي ينبغي التخلص منه.

يدرك الجميع أن منطق الانقلابات لا يصنع رخاء اقتصاديا ولا تطوّرا علميا وثقافيا

والحقيقة أن هذه الانقلابات جميعها لا تخلو من علاقة مع أطراف أجنبية، وإذا كانت فرنسا الطرف المستهدف في سلسلة الانقلابات الأخيرة، لتحلّ محلها روسيا حليفا وسندا، فإن تاريخ غالبية الدول الأفريقية التي عرفت انقلاباتٍ عسكريةً يكشف أن هذه الدولة الاستعمارية السابقة لعبت دورا واضحا في كثير من أزمات الدول التابعة لها، حيث لوحظ الترابط الوثيق بين التعاون العسكري الفرنسي مع دولة ما والانقلابات التي تشهدها لاحقا، لأن التعاون العسكري يفتح المجال لبناء علاقاتٍ بين ضباط من الجيش والقوى الأجنبية التي توظف مثل هذه الارتباطات لحماية مصالحها عند وصول أي حكومة مناوئة للمصالح الأجنبية، وهو ما يصدًق أيضا على الدور الأميركي. ومن النادر أن يتم انقلاب ما من دون إخطار أجهزة الاستخبارات الأجنبية، حيث يتواصل الانقلابيون أنفسهم مع القوى الأجنبية لطمأنتهم على مصالح دولهم، والحصول على دعمهم الضمني، بل كانت بعض الانقلابات نتاجا لترتيب خارجي، حيث تجند قوة خارجية تريد إسقاط حكومة تهدّد مصالحها متآمرين من قيادات جيش البلد المستهدف لتنفيذ انقلاب ضد الحكومة القائمة في البلد أو لقطع الطريق أمام قوة شعبية صاعدة قد تشكّل خطرا على نفوذها.

تصاعد حمّى الانقلابات العسكرية في أفريقيا وتدخّل أكثر من طرف دولي للتأثير في الأوضاع السياسية القائمة وتغيير الأنظمة يكشف عن الجانب الأهم الذي يفسّر تخلف الدول الأفريقية، وتضاعف عدد المواطنين الأفارقة النازحين من مناطق الأزمات، بحثا عن فرصة للهجرة إلى غرب المتوسّط، حيث يدرك الجميع أن منطق الانقلابات لا يصنع رخاء اقتصاديا ولا تطوّرا علميا وثقافيا. ومهما كانت طبيعة الانقلاب، تم بأسلوب دموي عنيف أو انقلاب دستوري من داخل مؤسّسات الدولة، فإن كليهما لا يقدم حلا لمشكلات البلاد بقدر ما ينتج مزيدا من الأزمات، ويدفع بهذه الدول إلى مؤخّرة الترتيب العالمي في المجالات الحيوية، كالصحة والتعليم والثقافة، بل ويعجز الانقلابيون حتى عن توفير أساسيات الحياة للشعوب المسلوبة الإرادة.

B4DD7175-6D7F-4D5A-BE47-7FF4A1811063
سمير حمدي

كاتب وباحث تونسي في الفكر السياسي، حاصل على الأستاذية في الفلسفة والعلوم الإنسانية من كلية الآداب والعلوم الإنسانية بصفاقس ـ تونس، نشرت مقالات ودراسات في عدة صحف ومجلات. وله كتب قيد النشر.