المثقف المشتبك والمثقف المختبئ

المثقف المشتبك والمثقف المختبئ

05 ابريل 2023
+ الخط -

تعدّدت تعريفات مفهوم "المثقف" التي أنتجها الدارسون والمشتغلون في الحقل الثقافي، وتعدّدت معانيها في أوقاتٍ وسياقاتٍ مختلفةٍ. ومع ذلك، بقي السؤالان: من هو المثقف؟ وما هو دوره الاجتماعي؟ من دون إجابتين واضحتين.

وقد تقاطعت هذه المعاني، في بعض الأحيان، وتباعدت في أخرى، بحسب المدخل المنهجي لكلّ تعريف، فميّز علي شريعتي بين "المثقف الأصيل" الذي يبني وعيه منطلقاً من ظروف مجتمعه ومُعاناته، متّسماً بوضوح الرؤية وسعة الأفق، و"المثقف المُقلِد" الذي يحاول أن يتماهى مع سمات المثقف الغربي، من دون وعيٍ بها. من جانبه، وعلى غرار غرامشي، يعتبر حسين العودات أن كل من يُفكّر هو مثقّف، فكل الناس، بشكل أو بآخر، هم مثقفون، لكن عدداً قليلاً منهم يقوم بوظيفة المثقف ويؤدّي دوره. وانطلاقاً من الوظائف والأدوار، يقسّم غرامشي المثقفين إلى صنفين: "المثقف العضوي" الذي ينحاز الى طبقة الشعب وينخرط في همومها ولديه حسّ المسؤولية تجاهها، فيقف مع مصالحها بكل الوسائل في وجه الطبقة المسيطرة، ويدافع عنها بوعيه النقدي، لكنه يبقى مشبوهاً في نظر هذه الطبقة التي ينحاز إليها، وفي نظر الطبقة المسيطرة التي يجابهها. في المقابل، يعمل "المثقف التقليدي" المحافظ لحساب الوضع القائم، واستمرارية الطبقة الحاكمة في وجه التغيير. أما خالد الحروب فقد اعتمد في تصنيفه المثقفين على درجتي اليقين والشكّ في المعرفة المنتجة، فقسمهم إلى "المثقف القَلِق" و"مثقف اليقين"، الأول هو المتسائل الذي لا يتوقف عن طرح الأسئلة بشأن أشد الحقائق وضوحاً، والمُشكّك في كل الأجوبة، لتظلّ الأسئلة مفتوحة ومُولّدة نقاشات أخرى، بعكس مثقف اليقينيات الجمعية والاجتماعية والإيمانيات الثابتة، الذي يدّعي امتلاك الحقيقة ويروّج لها.

وتحدّث عزمي بشارة عن "المثقف العمومي" الذي يملك معرفة علمية يتفاعل من خلالها تفاعلًا مباشرًا، بلغة مفهومة، مع المجال العمومي وقضايا المجتمع العامة والدولة، والقادر على اتخاذ موقف، خصوصا حين يتحرّك الناس ضد الظلم، فيكون، في حالة كهذه، إما "مثقفاً نقدياً ثورياً" يقف مع الناس أو "نقدياً محافظاً" يقف ضد التغيير الجذري، ولكنه مع الإصلاح، وميّزه عن "الأكاديمي المختصّ" صاحب الشهادة الجامعية والمنغلق في حدود اختصاصه وغير قادر على اتخاذ موقف قيمي أو معياري من قضايا مجتمعه. ويشرح جان بول سارتر هذه الفكرة الأخيرة في كتابه "دفاعاً عن المثقفين"، بأن صفة المثقّف لا تُطلق على علماء في مجال انشطار الذرّة يعملون على تطوير أسلحة حربٍ ذريةٍ وتحسينها، لكن إذا تيقّظ ضمير هؤلاء إدراكا لما تنضوي عليه هذه الأسلحة من طاقةٍ تدميرية، فاجتمعوا ووقعوا بياناً لتحذير الرأي العام من خطورتها، حينها فقط يصبحون مثقفين.

تنطبق صفة المثقف المختبئ، أيضاً، على المثقفين النقديين الثوريين الذين لطالما تغنّوا بالثورة، ورفعوا قيم الحريّة والتحرّر والعدالة الاجتماعية فوق غيرها من قيم

في العقد الأخير، برزت إلى الساحة الفكرية مقولة "المثقف المشتبك" للناشط الفلسطيني باسل الأعرج، وهو الصيدلي المعروف بثقافته الواسعة التي كرّسها لمقاومة الاحتلال. واشتهرت هذه المقولة خصوصا بعد استشهاده في 6 مارس/ آذار من عام 2017. وإن لم يكن الأعرج أول من نحت هذا المصطلح، إلا أنه طبّقه مقدّماً مثالاً نموذجياً للمزاوجة بين القول الثقافي والفعل النضالي، ميزةً للمثقف. وليس من الضروري أن يكون الاشتباك فقط بالمعنى التحرّري المسلّح، كما في حالة الشهيد باسل، وإنما أيضًا بمعنى الانخراط مع الناس في قضاياهم وهمومهم، فالمثقف المشتبك هو الذي يسافر باستمرار ذهاباً وإياباً بين النظرية والتطبيق، فيحصّن ثقافته بالنضال ونضاله بالثقافة. بهذا المعنى، هو ناقدٌ موضوعيٌ اجتماعيٌّ يشتبك مع مجتمعه، همُّه أن يحدِّد، ويحلِّل، ويعمل من خلال ذلك على المساهمة في تجاوز العوائق التي تقف أمام بلوغ نظام اجتماعي عادل، وهو ناقدٌ سياسيٌ أيضًا فيقف في وجه الاستبداد بشجاعةٍ، ويسعى إلى التغيير من أجل نظامٍ أكثر إنسانية.

المثقف المشتبك هو مثقف قلِق بمفهوم الحروب، وعمومي ناقد وثوري بمفهوم بشارة، ومثقف عضوي لا ينفصل عن هموم مجتمعه بمفهوم غرامشي، يبرُز للعلن في حالات الاضطرابات الاجتماعية والسياسية والتحوّلات التاريخية الكبرى أكثر منه في حالة السّلم والاستقرار النسبي، فهو ليس نتاج قرار من القرارات السياسية أو المؤسساتية، وإنما نتاج ظرف اجتماعي اقتصادي وسياسي، على الأغلب مأزوم وممزق.

وفي مقابل "المثقف المشتبك"، نجد "المثقف المختبئ" الذي يتخذ من صفة الثقافة ملجأً له ليُخفي سماته ونزواته ومواقفه الحقيقية. والمثقف المختبئ ليس المثقف الإصلاحي أو اليقيني أو المقلِد أو التقليدي الذين رأيناهم في التصنيفات السابقة، لأن هؤلاء مقتنعون فعلاً بصحة مواقفهم وأفكارهم ويدافعون عنها بكل صدق ووضوح، وإنما هو نوعٌ من مثقفٍ كاذبٍ، تبريريٍّ ومراوغ، يعي في السر حقيقته وحقيقة موقفه الانتهازي، ويستخدم صفة الثقافة استراتيجيةً لإخفاء هذه الحقيقة. يتوارى المثقف المختبئ خلف ثقافته، ليُخفي تعاليه ونخبويّته وعقدة نقصه، وجُبنه أمام إرادة التغيير، فهو، على سبيل المثال لا التخصيص، مثقف السلطة الذي لا يريد أن يعترف بذلك. وهو ذاك الأكاديمي الذي يجلس في برجه العاج، مختبأً خلف شهادته وأبحاثه الأكاديمية المحشوّة بالعمليات الإحصائية، التي لا يقرأها ولا يفهمها إلا قلّة قليلة، ليبرّر ابتعاده عن المجتمع وعن قضاياه العامة.

ينسى أو يتناسى مثقف الانقلابات، المختبئ خلف علمانويته المزعومة، أنّ الاستئثار بالسلطة، مهما حسنت نواياه، لا يؤدّي إلا إلى الاستبداد والجهل

تنطبق صفة المثقف المختبئ، أيضاً، على المثقفين النقديين الثوريين الذين لطالما تغنّوا بالثورة، ورفعوا قيم الحريّة والتحرّر والعدالة الاجتماعية فوق غيرها من قيم، ونادوا بالتمرّد الشعبي على الاستبداد، وحين نزلت الجماهير غاضبةً إلى الشوارع في أعقاب ثورات الربيع العربي، وقفوا خائفين مرتبكين أمامها يقلّبون في معاجمهم الثورية ليفهموها، ويبحثون في كرّاساتهم الأيديولوجية ليتأكدوا مما إذا كانت هذه الجماهير قد خرجت بقرارات حزبيّة صحيحة، وحين لم تبدُ لهم الثورات كما يريدونها، وقفوا ضدّها مسوّغين مواقفهم بعدة حجج، أولها عدم جهوزية الشعوب للديمقراطية وأن عليها أن تتحرّر أوّلًا، ثمّ تنال حقّها في الديمقراطية! أي أنّهم يعتقدون، أو يريدون إيهامنا، أنّ الدّيمقراطيّة نتيجةٌ تتحقّق بعد تأسيس الحريّات العامة.

لا تُخفي هذه الفكرة نظرة نخبوية واستعلائية، فقط، لدى هذه الفئة من المثقفين، ولكن أيضًا إيمانهم بخصوصيّة وضعهم في المجتمع وبدورهم التنويري، وتبرّر هذه الخصوصية لديهم وصايتهم الفكريّة على الشعب، فهم يعتقدون أنهم الوحيدون القادرون على مجابهة المشكلات الكبرى التي تواجه المجتمع، وهم الذين تقع على عاتقهم مهمّة تطوير الثّقافة الشعبيّة المتخلفة، إلى ثقافة الالتزام بالقوانين والدّفاع عن كرامة المواطن وترسيخ قيم الحرية والمعايير العلمية!

المثقف المختبئ هو الذي اختبأ خلف قضية فلسطين وأولوية معركة تحرير الأرض على الديمقراطية، متناسياً أنّ مقولة "أسبقية تحرير الأوطان على تحرير المواطن"، وأن "لا صوت يعلو فوق صوت المعركة" لم تكن أكثر من ذريعةٍ لتبرير العنف، وقمع الحركات التحرّرية الديمقراطية، ونهب الأوطان واستباحتها، غافلين عن أنه لا يصون أمن الوطن وكرامته إلا مواطنون أحرار. وهو الذي توارى خلف علمانيته فوقف مع أنظمة انقلبت على العملية الديمقراطية، في مصر وتونس مثلاً، بحجّة خطر "الدولة الدينيّة"، متجاهلاً أن دولة الاستبداد السياسي والعسكري، الحاضرة بكثافة في الخبرة العربيّة المعاصرة، هي أيضًا خطر على الدّولة المدنيّة. ينسى أو يتناسى مثقف الانقلابات، المختبئ خلف علمانويته المزعومة، أنّ الاستئثار بالسلطة، مهما حسنت نواياه، لا يؤدّي إلا إلى الاستبداد، والجهل، وخنق الطاقات والفساد، فلا يمكن أن يتنوّر شعبٌ وينضج وهو تحت نير الاستبداد والقهر. التنوير يحتاجُ، أولاً، إلى حرية وديمقراطية وتداول للسلطة وقوانين تحميه، وكل تنوير في ظل الاستبداد وتبريره هو تزوير.

EB01B814-698C-4CCC-9ACD-FF0F50FDCC1F
EB01B814-698C-4CCC-9ACD-FF0F50FDCC1F
عزام أمين

كاتب وباحث سوري، دكتوراة في علم النفس الاجتماعي، مدرس في معهد الدوحة للدراسات العليا

عزام أمين