اللطم ممنوع والعتب مرفوع

اللطم ممنوع والعتب مرفوع

08 نوفمبر 2020
+ الخط -

نتقبّل سائر لطميّات الأسف، كلما انخرطت دولة عربية في مفرمة التطبيع مع "إسرائيل"، إلا أن تصدر عن مسؤول فلسطيني؛ فهؤلاء آخر من يحقّ لهم الولولة والنواح؛ ليس لأنهم السبّاقون إلى التطبيع وحسب، بل لأن أغباهم كان يدرك حتميّة مصيرٍ كهذا، عندما ارتضى أن ينزع عقدة "المسبحة" من خيطها، فهل التطبيع حلالٌ عليه حرامٌ على العرب من كل جنس؟ بصرف النظر عن مسوّغات عدم التوصل إلى حلول نهائية للقضايا الكبرى التي لم تحسم بعد، كالقدس، وحق العودة، وقيام الدولة الفلسطينية، والتي يتحمّل المفاوض الفلسطيني وزرها قبل غيره، لأنه آثر أن يبدأ المفاوضات من ذيلها، لا من رأسها، أي من حيث أرادت إسرائيل التي لم يكن من هاجس لها غير الأمن وحده، فتمكّنت من توظيف الفدائيين، أعداء الأمس، حرس حدود لها، وقاتلت الفلسطينيين بالفلسطينيين، وقمعت الفلسطينيين بالفلسطينيين، فحققت أمنها كاملاً، وعاصمتها تامّة غير منقوصة، ولم تسمح بعودة اللاجئين ولا من يحزنون، لماذا يحزن ناس "أوسلو" على مخرجات صنعوها بأياديهم المبتورة من السلاح والكفاح؟

لا أدري إن كانت السلطة الفلسطينية قد راهنت، وهي توقع اتفاقيات أوسلو، على "الموقف العربي" الداعم، عندما تصل المباحثات إلى القضايا المعلقة، لكن إن فعلت فتلك طامة كبرى؛ لأنها كانت لا تزال مسربلة بكلّ صنوف الخذلان العربي، من "جيش الإنقاذ" إلى حصار بيروت، وليس من حقّها، والحال كذلك، أن تلطم على خذلانٍ إضافيّ كانت تعلم جيداً أنه قادم لا محالة. وأما إن كانت قد ذهبت إلى المفاوضات مفردة (وهو ما فعلته)، هرباً من هذا الخذلان، فليس لها أن تستدرك وتعيد الحسابات؛ فقد كان القرار قرارها، وعليها أن تتحمّل نتائجه، من دون النظر إلى هرولات التطبيع الجارية حولها.

والأدهى أن سلطة محمود عباس تدرك، جيداً، أنها لن تستطيع تجاوز حدود اللطميات وشق الجيوب، فهي لن تتجرّأ على حلّ نفسها، مثلاً، أو إعلان القطيعة التامة مع إسرائيل ودول التطبيع الجديدة؛ لأن بديل السلطة القائمة موجود في أبوظبي، وينتظر شارة التحرك إلى رام الله، وأعني به محمد دحلان، بأجهزته المعدّة والجاهزة لتسلّم مفاصل السلطة ومؤسساتها، الذي يحمل أجندة واضحة، قوامها مزيد من التفريط والتفريط، وغضّ النظر عن حق العودة والقدس والدولة، والقبول بالوضع القائم أو بأدنى منه، إن شاءت إسرائيل وعشاقها من دول التطبيع. وفي مثل هذا الوضع الضاغط على عباس ورفاقه، ليس مستبعداً أن يلعبوا بأنفسهم دور البديل، على قاعدة "نحن أحقّ بالتفريط من غيرنا"، خصوصاً أنهم يمتلكون مؤهلات التفريط، ويعلمون، أزيد من غيرهم، استحالة تحقيق حلم الدولة في جغرافيا لم تعد تتسع إلا لدولة واحدة، لن يقيم الفلسطينيون فيها إلا بمستوطناتٍ معزولة، بعد أن تستطيل المستوطنات الصهيونية لتشمل أرض فلسطين كاملة غير منقوصة.

ومن المفارقات، في هذه الكوميديا المبكية، أن إسرائيل التي كانت تمثل "زائدة دودية" في الجسد العربي، أصبحت قلب الجسد، بفضل دونالد ترامب وعربه، بعد أن غدا التطبيع شرطاً للرضى الأميركي، وللمعونات، وللرفع من قوائم الدول الداعمة للإرهاب... وليس مستغرباً إن غدا السلام مع إسرائيل شرطاً للوحدة العربية التي لم تحققها "الحرب". أما القضية الفلسطينية التي كانت جامعاً عربيّاً مشتركاً، فأصبحت مفرِّقاً ومشتّتاً، وسبباً محوريّاً للقُطرية والانكماش الحدودي. وأما الجامع الجديد، فهو "القضية الإسرائيلية" وحدها. 

يتعيّن، إذاً، على السلطة الفلسطينية أن تعترف بإخفاقها في تحقيق آمال الشعب الفلسطيني، الضحية الوحيدة في خضمّ هذه اللطميّات؛ ذلك أن من قتل أحلامه بالتحرّر هو نفسه من زعم أنه يحمل هذه الأحلام ويمثلها في الخنادق والفنادق، على الجبهات والطاولات، فكانت النتيجة أنه فرّط بكل شيء، بالحريّة قبل العاصمة، حين ارتضى لنفسه قمع شعبه وكبته، وبالعاصمة قبل الدولة، حين جعل القدس آخر همّه، وبالدولة ذاتها، حين اعتقد أن في وسع السلام أن يحرّر وطناً.

EA8A09C8-5AE7-4E62-849E-5EBF1732C5FF
باسل طلوزي

كاتب وصحافي فلسطيني. يقول: أكتب في "العربي الجديد" مقالاً ساخراً في زاوية (أبيض وأسود). أحاول فيه تسليط الضوء على العلاقة المأزومة بين السلطة العربية الاستبدادية عموما والشعب، من خلال شخصيتين رئيسيتين، هما (الزعيم) والمواطن البسيط (فرج). وفي كل مقال، ثمة ومضة من تفاصيل هذه العلاقة، ومحاولة الخروج بعبرة.