الفساد وهدم المساواة في نظام سعيّد الانتخابي

الفساد وهدم المساواة في نظام سعيّد الانتخابي

13 ابريل 2022
+ الخط -

في مشهد تونس المهدّد بالإفلاس، ضاعف شهر رمضان ظلال بؤسه، وبين تداعيات أزمات تتفاقم من يوم إلى آخر، ومخاطر وارتدادات حربٍ تسلّلت إلى مختلف الدول، مع الارتفاع المشطّ في أسعار القمح والنفط، ومع وشحّ الموارد المحلية، وتوقف الإنتاج والاستثمار، وقسوة هيئات التصنيف الدولية، وإجحاف المنظمات والجهات المالية المانحة والمقرضة، وجفاء الشركاء والأصدقاء. وعلى الرغم من انقضاء ثمانية أشهر على الإجراءات الاستثنائية التي كان قد أعلن عنها رئيس الجمهورية قيس سعيّد، يوم 25 يوليو/ تموز، فإن مخاوف التونسيين لم تتبدّد، وانشغالاتهم ظلت على حالها أمام ارتفاع الأسعار وفقدان المواد الأساسية لمعيشتهم اليومية، ما رفع منسوب فقدان الأمل في مستقبلهم، وتحقيق شعارات الكرامة التي ثاروا من أجلها.

في المقابل، يمضي سعيد في مساره الغامض، عابرا بالقوة، ومتخذا قرارات ومراسيم تلقى رفضا واسعا لدى الخصوم، وشقّا عريضا من المساندين، ناهيك عن أطراف خارجية تتسع دوائرها من يوم إلى آخر، ومنها المفوضية السامية لحقوق الإنسان والخارجيتان، الفرنسية والأميركية، والرئاسة التركية والبرلمان الأوروبي، وصولا إلى الأمم المتحدة التي أعلن المتحدث باسم أمينها العام عن قلقها إزاء قرار الرئيس التونسي حلّ البرلمان وإحالة النواب المنتخبين على القضاء بتهم قد تصل أحكامها إلى الإعدام.

وها هي تونس وكأنها أصبحت جزيرة معزولة، ليتفجر جدل بشأن السيادة والتدخل الخارجي في القرار الداخلي، وهو جدل يعدّه الجميع خارج السياق إزاء تبدل المعطيات الجيوسياسية، وسقوط الحدود والوضعين الاقتصادي والمالي في البلاد. والجديد في المشهدية التونسية شديدة التأزم والتعقيد ما أعلن عنه سعيد يوم 8 من إبريل/ نيسان الحالي، من روضة آل بورقيبة في الذكرى 22 لوفاة الزعيم الوطني، أن النظام الانتخابي الذي ستجري على أساسه انتخابات البرلمان المقبل يوم 17 ديسمبر/ كانون الأول سيعتمد الاقتراع على الأفراد في دورتين، على عكس ما جرى في الاستحقاقات الانتخابية السابقة، حيث دارت على نظام القوائم، وذلك ما ينسجم مع طرح مشروع سعيّد السياسي، المؤسس على النظام القاعدي، ليرمي بمستقبل البلاد والتونسيين في متاهة تجربةٍ هلاميةٍ قد يتجاوز المستقبل معها مدارات الوقوف على الهاوية إلى السقوط في عمقها السحيق.

يستبعد النظام الانتخابي الذي اختاره قيس سعيّد الشباب الذي ما فتئ سعيّد يدعوه إلى تحمّل المسؤوليات، وخوض غمار مغامرة الإنتاج والاستثمار والمشاركة في الحياة السياسية

والسؤال اليوم، هل ما زالت تونس، بتحدّياتها الراهنة، تتحمّل هذا الخيار الهلامي الذي عانت منه الجارة ليبيا، وكانت نتائجه كارثية بكل الاعتبارات؟ والمعضلة كل المعضلة أن سعيّد مصرّ، وفق تصوّراته الافتراضية واستشاراته الإلكترونية المشكوك في موضوعيتها والنتائج التي انتهت إليها، على أن حل الأزمات المركبة التي أصبحت تعاني منها تونس يكمن في تغيير نصوص قانونية ودستورية وأنظمة انتخابية، بمعزل عن كل سياقاتها الاقتصادية والاجتماعية، وإن هذه النصوص قادرة على تغيير الأحوال وتبديل الأوضاع، فالرئيس، تبعا لما يصرّح به، يعتقد أن تغير نظام الاقتراع في الانتخابات التشريعية القادمة من الاقتراع على القوائم إلى الاقتراع على الأفراد كفيل بأن يخرج البلاد من نفق أزماتها وانسداد أفق أهلها وأزمة الحكم فيها نظاما سياسيا وبرلمانا وأحزابا.

لقد اختار سعيّد هذا النظام الانتخابي، والحال أن العقل السياسي التونسي كان قد خاض جدلا كبيرا خلال العام 2011، شارك فيه سعيّد نفسه، بصفته خبيرا في القانون الدستوري، وقد حسم ذلك الجدل بلفظ هذا النظام بأغلبية ساحقة، واعتماد الاقتراع على القوائم، مع أفضل البقايا. واليوم وقد تمكّن سعيد من الاستحواذ على كل السلطات ومجمل الصلاحيات والقدرات، بفضل اجتهادات وتفسيرات لنصوص دستورية وقوانين، يعود إلى اختيار هذا النظام الانتخابي، علما أن النظام الانتخابي في تونس اعتمد منذ 1956 على القوائم. ويقوم الاقتراع على الأفراد باختيار الأشخاص، عوضا عن القوائم، بمعنى أن الناخب لن يجد في ورقة الانتخاب أحزابا أو قوائم مستقلة، إنما ستضم أسماء عديدة، وعلى الناخب أن يختار واحدا منها، ليكون التصريح بالنتائج من الشخص الذي فاز بأكثر عدد من الأصوات. وسيجرى هذا النظام في دوائر انتخابية ضيقة، على غرار البلديات والمعتمديات والعمادات، ولا يستبعد أن تكون هذه النتائج مسبوغة بألوان العشيرة والقبيلة والوجاهة المالية والعائلية، فالمرشح الذي له هذه الإمكانات، ووراءه عائلة أو قبيلة سيكون هو الفائز والمسيطر في دائرته، كما أن المرأة لن تكون لها حظوظ وافرة للفوز، اعتبارا للثقافة الذكورية التي تحكم تقاليد الداخل التونسي ونواميسه ونمط عيشه، علاوة على أن تكون هذه النتائج لصالح الشباب المعطّل والمهمش. وبذلك يجري نسف مبدأ التناصف بين النساء والرجال، وهو مبدأ أقرّه الدستور، ويعدّ من المقومات الأساسية للنظام الانتخابي الديمقراطي في تونس وفي بلدان عديدة. ويستبعد هذا النظام الشباب الذي ما فتئ سعيّد يدعوه إلى تحمّل المسؤوليات، وخوض غمار مغامرة الإنتاج والاستثمار والمشاركة في الحياة السياسية.

خطاب سعيّد يعمّق الفرز والكراهية، وتقسيم التونسيين إلى صادقين وخونة، والبلاد في أزمةٍ لم تشهد لها مثيلاً

ستؤكّد السيناريوهات المنتظرة من هذا النظام الانتخابي الذي اختاره سعيّد أن خيار الرئيس سياسي بامتياز، يسعى إلى تكريس مشروعه السياسي القاعدي على مستوى البلديات (350 بلدية)، والمعتمديات (280 معتمدية)، فاتحا فرصا ومجالات لما تسمّى التنسيقيات المساندة له ولمشروعه، فالرئيس يسعى، على الرغم من التعقيدات الفنية والبشرية والتشريعية لهذا النظام الذي اختاره لتغيير صورة البرلمان المركزي الحالي إلى برلمان شعبوي، يهدم مبدأ مساواة المواطنين، ويساند نظاما رئاسيا ورئاسويا، يمتلك كل السلطات، ليبقى دور البرلمان مباركا كل ما يتّخذه الرئيس من إجراءات، بعيدا عن كل رقابة دستورية أو مساءلة برلمانية. وبذلك يقع الرئيس في تناقض واضح، فهو الداعي إلى تطهير المشهد السياسي من المال الفاسد وتحقيق العدالة بين كل التونسيين والفصل بين السلطات، وها هو يدعو إلى اعتماد نظام انتخابي سيكرّس المال الفاسد والقبيلة النافذة، لينتج برلمانا هشّا ضعيفا، لا دور له تشريعيا وقانونيا في الواقع.

ومهما يكن من أمر، يُجمع التونسيون على أن الأزمات المركّبة التي يعيشونها اليوم في واقعهم البائس لن تعالَج بالنصوص القانونية والنظم الانتخابية القافزة على تعقيدات هذا الواقع المأزوم. والمؤسف أن التونسيين يظلون أمام تحدّيات الواقع، وعجزهم عن تغييره، ويظلّ الرئيس بعيدا عن هذا الواقع، مقيما في كوكب آخر، لا يستمع لهم، ولا يحاور من يجب الحوار معه، معتقدا أن النصوص هي المبتدأ والخبر. والأهم بالنسبة إليه أن يمضي في تنفيذ الخطوات التي أعلن عنها من أجل تكريس نظامه القاعدي. ويزيد الطين بلّة خطابه الذي يعمّق الفرز والكراهية، وتقسيم التونسيين إلى صادقين وخونة. وبذلك تزداد الصورة قتامة لتحاصر البلاد بأزمةٍ لم تشهد لها مثيلا في تاريخها المعاصر، حيث تجري محاكمة نواب الشعب، وتُحاصَر حرية التنظيم وإبداء الرأي، وتكرّس مقومات ديكتاتورية ناشئة، تستولي على جميع السلطات، ليزداد الوضع تأزّما سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وعزلة دولية عن الفضاء الديمقراطي الذي ظنّ التونسيون أن بلادهم انتمت له منذ ثورتهم. وحريّ بكل القوى المعنية بمستقبل البلاد اليوم أن تتّحد على بناء جبهة للخلاص الوطني، تعمل على توحيد الجهود لعقد مؤتمر للحوار من دون توان ولا إقصاء، ووضع برنامج للخروج من النفق المظلم الذي تردّى إليه التونسيون ومضت بلادهم إليه.

35FE487F-4A9A-4B25-8DF9-AF430105714E
35FE487F-4A9A-4B25-8DF9-AF430105714E
محمد أحمد القابسي

كاتب وأكاديمي وشاعر تونسي

محمد أحمد القابسي