الحكومة المصرية تساوي بين الجاني والضحية

الحكومة المصرية تساوي بين الجاني والضحية في جنين والقدس

02 فبراير 2023
+ الخط -

نشرت الصفحة الرسمية لمجلس الوزراء المصري، في 28 الشهر الماضي (يناير/ كانون الثاني)، بياناً قالت إنه صادر عن وزارة الخارجية، بعد هجوم القدس الشرقية، حيث استهدف الشهيد الفلسطيني خيري علقم عشرات من المستوطنين بسلاحه، رداً على مجزرة ارتكبتها قوات الاحتلال الإسرائيلي فيها، راح ضحيتها عشرة فلسطينيين وعشرات الجرحى، وهي عملية ترتكب في عهد أسوأ حكومة مرّت على الكيان الصهيوني في التطرّف، حتى أن آلافاً من الإسرائيليين خرجوا للشوارع احتجاجاً على سياستها المتطرّفة التي لن تجلب استقراراً في الداخل، ولا في العلاقات مع الفلسطينيين.

أعربت مصر عبد الفتاح السيسي في هذا البيان عن "رفضها التام واستنكارها الشديد للحادث، وتحذيرها من مخاطر التصعيد الجاري بين الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي والانزلاق إلى حلقة مفرغة من العنف باعتباره يزيد الوضع السياسي والإنساني تأزماً، ويقوض جهود التهدئة وكافة فرص إعادة إحياء عملية السلام، وتقدمت بخالص العزاء لأسر الضحايا، متمنية الشفاء العاجل للمصابين".

قد يرى بعضهم هذا البيان كغيره من بيانات الدبلوماسية المصرية الروتينية، والباحثة عن دور وظيفي أصبح ثانوياً في ملف التهدئة في فلسطين المحتلة، لكن حقيقة الأمر أن ثمّة ملاحظات أولية عليه، أولها أنه جاء فور ورود أنباء عملية القدس مباشرة، فالحكومة ذاتها انتظرت أياماً بعد الاقتحام الإسرائيلي لمخيم جنين لكي تصدر بياناً، ولم تعرب فيه حتى عن تعازيها للشعب الفلسطيني، أو تتمنى الشفاء العاجل للمصابين كما تمنّته لضحايا الطرف الآخر، فيما يبدو أنه انحياز تام لموقف الكيان، وتبنٍّ تام لروايته حول نزاع فلسطيني إسرائيلي مقتطع من سياقه ومكانه وزمانه ويُدان فيه الضحايا علناً.

ارتبطت غضب ثورة يناير التي تحل ذكراها الثانية عشرة هذا العام باحتجاجات متراكمة سبقتها، وكانت القضية الفلسطينية جزءاً منها

ومما يبدو من البيان المنقول عن وزارة الخارجية، كأن الحكومة المصرية لم تقتنع بكفاية بيان وزارة الخارجية، فقرّرت تصعيده لصفحة الحكومة نفسها ونشره على صفحتها، في تهافت يجعلك تشعر كما لو كانت الإمارات زعيمة صفقة القرن والسلام الإبراهيمي هي من تدفع رواتب القائمين على الصفحة، فالإمارات تشهد هذه الأيام، وبالتوازي مع مجازر جنين، تطبيعاً ثقافياً من نوع آخر، إذ يغني أحد مطربيها النشيد الوطني للكيان، فيجد تفاعلاً واسعاً من مسؤوليه ومن المستوطنين على مواقع التواصل، واحتفاء كبيراً في وسائل الإعلام الإماراتية والإسرائيلية التي لا تختلف كثيراً.

يمكن للمرء أن يستسيغ، وإن بصعوبة، تصريحات أحد رجال الأعمال السطحيين أو بعض المنشورات السطحية الشعبوية التي تدّعي محبّتها السلام للجميع، وتستخدم مغالطات غير منطقية للتسوية بين الجاني والضحية، لكن هذا ليس مفهوماً في منطق الحكومات، وبالذات حكومات الطوق على مرّ تاريخها، لكن لا ينبغي أبداً أن نساوي بين مواطني الكيان الذين يعلمون أنهم يعيشون على أرضٍ مغتصبة بقوة السلاح، وغالبيتهم مسلّحون أو يسعى (الوزير) إيتمار بن غفير لتسليحهم، وجميعهم رجالاً ونساء عساكر على قوة الاحتياط، وبين شعب اغتصبت أرضه ودوره وبنيت عليها المستوطنات، وفرض عليه الحصار والعزلة التامة عن العالم، ولا يُسمح له حتى بالعيش في الهوامش، ثم تستنكر عليه مطالبته بالحد الأدنى من حقوقه وكرامته، فهذه التصريحات وتلك المغالطات بفجاجتها كأنها تطلب من مغتصبةٍ أن تتزوج مغتصبها وتفرح، أو أن يسلّم صاحب المنزل للص مفاتيح منزله ثم يقول له لتقتلني كي تستريح وأستريح، فحتى منطق السياسة البراغماتية البحتة لا يقتضي هذا أبداً بل كانت الأنظمة دوماً ما تتاجر بالقضية باعتبارها قضية رابحة داخلياً، وتحوز في أعتى الأوقات تعاطفاً شعبياً واسعاً، ويمثل الانحياز لها جزءاً من شرعية السلطة.

النقطة المضيئة هنا هي حجم التفاعل الشعبي الواسع مع بيان الإدانة المصرية لحادث القدس، والاستنكار الشعبي الكبير له، والذي يمكن رصده بمؤشّرات التفاعل على المنشور، فقد كانت التفاعلات عليه معبّرة جداً عن انفصالهم عن الشارع، فإجمالي التفاعلات بلغ 125 ألفاً حتى كتابة هذه المقالة، ما يزيد على 109 آلاف استخدموا تعبير أغضبني، ليعبروا عن غضبتهم تجاه هذا الموقف الحكومي، فيما عبّر أكثر من تسعة آلاف شخص باستخدام تعبير أضحكني ولكنه ضحك كالبكاء، بينما حظي منشور الحكومة بما يزيد قليلاً عن أربعة آلاف تعبير عن الإعجاب وأقل من 650 محباً، وثلاثمائة تعبير عن الاندهاش منه، فيما لم يصل داعموه بتعبير الدعم التام إلى مائة شخص، فيما حظي المنشور بأكثر من 40 ألف تعليق غالبيتها الساحقة تعبر عن الغضب الشعبي المصري من الموقف الرسمي هذا، وتعلن تعاطفها التام مع القضية الفلسطينية وعملية القدس، وتعتبرها ردّاً أقلّ مما يجب على العنف المفرط للكيان ومجازره بحق الفلسطينيين. ولكن يبدو أن الحكومة المصرية وأجهزتها السيادية ما عادت تأبه للداخل قط، فهذا المستوى من التهافت على إرضاء الكيان يشي وكأن المسؤولين المصريين يخشون معاقبتهم من صفحة الكيان بالعربي أو إيدي كوهين إذا لم يخرجوا ببيانٍ مخزٍ كهذا.

غالبية التفاعلات ساخطة بشدة على السياسات الداخلية والخارجية، وهذا نذير انفجار اجتماعي مهما بقي تحت الرماد

عار على حكوماتنا أن يخرج عشرات آلاف من الإسرائيليين أنفسهم محمّلين حكومتهم الحالية مسؤولية التصعيد، بينما تستحي حكوماتنا أن توجّه مثل هذا النقد لحكومة تل أبيب، بل وتساوي بيانات عديد من هذه الحكومات بين الضحية والجلاد، بل وتنحاز للأخير باستخفاف شديد بعقولنا، سواء ببيانات أو بجرّ التطبيع إلى مساحات غير مألوفة حد إقامة إحياء بمناسبة اليوم ذكرى المحرقة في أبوظبي.

منذ عدة سنوات، يراودني سؤال بجدّية حول هل يقرأ المسؤولون المصريون تعليقات القرّاء على الأخبار والبيانات الرسمية؟ ليست لدي إجابة قطعية على هذا السؤال، لكن السلوك السياسي يشير إلى عدم قراءتهم لها، وإذا كانوا يقرأونها فإنهم يتّجهون تماماً للاتجاه المعاكس لآراء الناس في القضايا الداخلية والخارجية. ولو توفرت لدينا وسائل وإمكانات بحثية حديثة لقمنا كباحثين بجمع وتصنيف وتحليل ردود أفعال القرّاء على الأخبار المختلفة وتوجيه أوراق توصيات للمسؤولين بناء عليها، لربما تداركوا الوضع قبل انحداره إلى ما هو عليه، والاستمرار في البحث عن قاع. ولكن مثل هذا العمل هو وظيفة أساسية مفترضة لأجهزة الاستخبارات والأمن الوطني، بل ووحدات البحث الرسمية في الجامعات والصحف القومية، ويفترض بها أن تقوم بهذه المهمة، حتى في ظل أعتى الأنظمة الديكتاتورية، ليس فقط من أجل أن يؤدّوا وظيفة المخبرين الذين يرصدون ويتتبعون ويتصيّدون معارضي النظام ويسلمونهم للأجهزة الأمنية، لكي ترضى عنهم أو تثبت في تقاريرها ولاءهم، ولكن أيضاً من أجل التحذير من موجات الغضب الحقيقية في أوساط المواطنين العاديين. فقد ارتبطت غضب ثورة يناير التي تحل ذكراها الثانية عشرة هذا العام باحتجاجات متراكمة سبقتها، وكانت القضية الفلسطينية جزءاً منها، وكان نظام حسني مبارك يسمح ببعضها كسباً للشرعية أو تهدئة للشارع وتنفيساً له، وهذه الموجات موجودة ومتزايدة جدا في الأعوام الأخيرة، رغم البطش والقبضة الأمنية والعسكرية المحكمة حتى على مواقع وصفحات مخبري الكتائب الإعلامية المباشرة، وليس وسائل الإعلام التقليدية فقط.

عند النظر لأي منشور على أي صفحة رسمية مصرية خلال الشهور الماضية تحديداً، يمكن القول بأريحية إن غالبية التفاعلات ساخطة بشدة على هذه السياسات الداخلية والخارجية، وهذا نذير انفجار اجتماعي مهما بقي تحت الرماد ومهما حاولت معالجته بالمسكّنات فلن يدوم سكونه طويلاً.