الحرب والعنصرية: القادم أسوأ

الحرب والعنصرية: القادم أسوأ

10 مارس 2022
+ الخط -

من أسوأ الصُّور، هذه الأيام، على خلفية الحرب في أوكرانيا، تلك التي شاهدناها، في القنوات الغربية، بشأن اللاجئين، حاملة منسوبا من العنصرية لا يمكن وصفه إلا بأنّه الانحدار الذي ما زال العرب والمسلمون يعيشونه، وقد يصلون إلى قاعه، قريبا، لكن في حالة أسوأ ممّا عشناه.

حملت إلينا تعليقات إعلاميين وسّياسيين غربيين كثيرين تعليقات جعلتنا نعي هرمية القيم التي ما فتئ الغرب يُردُّد على مسامعنا أنّها عالمية، وتليق بكلّ البشر من حرّية وعدالة، موثّقة في اتّفاقيات صادقت عليها البشرية جمعاء، تحمي الفرد إذا ما وقعت الحروب والصّراعات، واضطرته للهجرة واللجوء، ولكن وفق معايير محّددة، تتضمّن الثّقافة المشتركة ضمن دائرة الغرب، ببشرة بيضاء، عيون زرق، شعر أشقر، وفوق ذلك كلُّه، التّديّن بالمسيحية.

تحاول هذه المقالة البحث في ازدواجية المعايير وكيف أنّ معاني اللُّجوء والوقوع ضحية للحرب تختلف من قوم إلى قوم، وتتّخذ المصائب، عندها، أشكالا تتميّز بالخصوصية المتّصلة بكلّ ما هو لون، دين، وثقافة التّي يجب أن تكون من الغرب، وحده من دون سواه، وإلا فأنت بشر لكن من دون تلك الحقوق، ولا تنطبق عليك الاتفاقيات الدولية. وإذا ما حاولت الهروب من الموت جرّاء الصراعات والحروب، عليك أن تقبع بعيدا عن الغرب الذي لن يتوانى عن ذكر كلّ مثالبك ذات الصّلة، هنا، بلون بشرتك وبدينك، وصولا إلى ثقافتك التي لا تؤهّلك لنيل شرف اللُّجوء إلى الغرب، أو نيل حقوقك في الحياة، ليس إلا كما أن الويل والثبور لمن يكون من أصول مختلفة أُلصقت بها الإرهاب، القتل والامتناع عن القبول بكلّ ما هو غربي، هنالك تصبح من طينة غير البشر، وعليك تقع القنابل، الأسلحة الكيميائية أو المحرّمة دوليا، بل قد تُقتل بالآلاف والملايين من دون أن ينبس أحد ببنت شفة أو يُعقد اجتماع يُندّد، كما لا علاقات تُقطع ولا عقوبات تُوقّع.

إذا ما حاولت الهروب من الموت جرّاء الصراعات والحروب، عليك أن تقبع بعيدا عن الغرب الذي لن يتوانى عن ذكر كلّ مثالبك ذات الصّلة، هنا، بلون بشرتك وبدينك ..

ثلاثة أمثلة تكفي، هنا، للاطّلاع على ما يعتبره الغرب عدلا وإنسانية، لعلنا ننطلق من رفض بعض الرياضيين العرب مقابلة نظرائهم الرياضيين من الكيان الصهيوني، وكيف أن الفيدراليات الدولية لمختلف الرياضات تعاقبهم لمخالفتهم، زعماً للروح الأولمبية. لكن، هنا، بمناسبة هذه الحرب، ترفض فرق رياضية كاملة من بلدان غربية مقابلة نظرائهم الروس، مع اعتبار أنّ ذلك من روح التّضامن مع أوكرانيا، وليس استخداما للسّياسة في الرّياضة، تماما مثل ذلك اللاعب الذي أبرز، بعد تسجيله هدفا، تضامنه مع أوكرانيا من دون أن يجري التعليق على السّلوك، في حين أن اللاعب المصري، محمد أبو تريكة، نال من الانتقاد ما نال بعد إبرازه تعاطفه مع غزة، حين اعتبرت الاتحادية الدولية نفسها أن سلوك الرياضي الأول تضامن أبو تريكة، معاداة للسامية.

وبشأن التناول الإعلامي الغربي، يجري اعتبار أي حديث عن استعمال القوة المفرطة في الحروب العديدة على غزة معاداة للسامية أو مساندة للإرهاب، في حين أن القنوات الغربية بإعلامييها ومحلليها تحدّثت بكلام لا ينمّ إلا على أن ثمّة ثقافة سياسية ملؤها العنصرية إزاء كل ما يحدث لنا أو في مناطقنا العربية والإسلامية، حيث يجري القتل من دون رقيب، وحيث تسقط الضّحايا من دون كاميرات تسجل (وتوثق) مقتل المئات في ملجأ العامرية في بغداد في 1991، ولا توثق ما يجري أمام المعابر ونقاط التفتيش الصهيونية التي قطّعت أوصال الأراضي الفلسطينية قطعا، كما لا توثق تلك الأخبار أيّ تعدٍّ على حقوق اللاجئين من وراء الأسلاك الشائكة في اليونان، أو المجر، أو بيلاروسيا.

سطرت تلك التحاليل والقنوات، والصحف والمجلات، صفحات وأحاديث كلها عنصرية وضعت جدارا فاصلا بين حضارتين، لا يمكن أن تتعارفا إلّا من خلال أديان مختلفة، ألوان بشرة سمراء وقاتمة هنا، وشقراء وبيضاء هناك، فضلا عن لون الأعين، وطبيعة الثقافة، ليسمح بالتساؤل لماذا يُعتبر الأمر عاديا بشأن استقبال مئات الآلاف من لاجئي أوكرانيا وتُتّخذ في حقّهم كل الإجراءات لإدماجهم، بكلّ سهولة ويسر، في حياة البلدان الأوروبية، في حين أنّ تلك البلدان نفسها أغلقت أبوابها وبنت سياجا على حدودها، ويبرَّر ذلك كله بالأزمات الاقتصادية، شحّ المال، وفي أحيان كثيرة، بعدم التيقن من أنّ اللاجئين هم حقّا لاجئون، وليسوا إرهابيين، لينتهي الأمر ليس بمعاقبة الاستبداد ومن يكرّسه في فضائنا الجغرافي، بل بردّ الاعتبار للمستبد، واعتبار ما جرى مجرّد صراع في عالم كلّه تخلّف وعدم استقرار على خلفية حضارية ليس إلا، وكأنّنا نسمع لهنتنغتون، وهو يبرّر لماذا يجب أن يستمر التاريخ ولا يتوقّف، لأنّ الفضاء الجيوسياسي، خارج عالم الغرب، يحمل، في طياته، عداوة وخصومات، يجب أن تُؤجّج، ولو أدّى ذلك إلى ما نراه من ملايين من القتلى واستمرار الاستثناء العربي الإسلامي عن التغيير والتقدم، على غرار العالم الآخر.

على مستوى الحكّام، في الغرب، شاهدنا تعاملا كلّه عنصرية وازدواجية معايير مع الحرب، فقد جرى التّأكيد على أنّ الحرب ما هي إلا تهجّم على الحضارة والقيم التي تُحارب في أوروبا، وبأن غزو بلد ذي سيادة، وتهجير أهله، مجرّم دوليا. وتستخدم لذلك كل الإجراءات ذات القوة القانونية الإلزامية من عقوبات، منع سفر لشخصيات سياسية روسية، حظر لطيران فوق روسيا والسفر إليها، مع أنّ تلك الجرائم التّي على أساسها تعاقب روسيا يرتكبها الكيان الصهيوني. لكن التعامل معه يجري على أساس أنّه جزء من تلك الحضارة الغربية، مع اعتبار أنّ التهجم عليه أو تجريمه بمثابة معاداة للسامية، وكأنّه لا وزن للمعايير القانونية والأخلاقية إلا عندما يتعلّق الأمر بالغرب بكل مكوّناته، من إنسان، ثقافة، أرض أو دين.

الغرب والآخر عالمان مختلفان، بل متضادّان، في كلّ شيء. وما شوهد، على خلفية الحرب بين روسيا وأوكرانيا ترجمة لهذا

يجري ذلك كلُّه، وكأنّ العنصرية أضحت متلازمة لصنع الوعي بالإنسان وكرامته، ولكن وفق معايير مزدوجة تُستخدم، هنا وهناك، وفق معطيات ذات صلة بمكوّنات للهوية، الوعي، إدراك حقوق الإنسان والحضارة، منحازة تماما لرؤية الغرب، كان عبد الوهاب المسيري، رحمه الله، قد فصّلها، رفقة باحثين جامعيين، في كتاب ضخم ضمّنه مختلف أوجه "الانحياز في العلوم الاجتماعية" (عنوان الكتاب) المهتمة بالإنسان، وهو الجهد نفسه الذي كان أنور الجندي، رحمه الله، قد أبرز فيه "أخطاء المنهج الغربي الوافد" (عنوان الكتاب) ونظرته إلى الإنسان وكلّ ما يحيط به من علوم، إذ إنّ الغرب والآخر عالمان مختلفان، بل متضادّان، في كلّ شيء. وما شوهد، على خلفية الحرب الجارية بين روسيا وأوكرانيا، ترجمة لسوداوية الملامح هذه، لكنّها واقعية ومنبئة عن العنصرية والانحياز للغرب، كلّ الانحياز.

هل ما يجري مراجعة لسياق الرؤية للإنسان وإدراك قيمه وفق مركزيةٍ غربيةٍ تتناسب مع العودة إلى مفاهيم كان الاستشراق قد كرّسها في إطار فوقيةٍ، كنا اعتقدنا أنّ العولمة ومسار التوافق القيمي، على المستوى العالمي، ساهم في انكسار مكوّناتها؟ هل تعود هذه بكلّ الزخم والقوة الفكرية إلى الساحة، وتترجمها كلّ تلك المواقف العنصرية، حتى على خلفية الحرب وتداعياتها الوحشية على الإنسان؟ تبقى الإجابة معلقة إلى حين انتهاء الحرب والوقوف على كلّ تلك التداعيات، ومنها على القيم وحقيقة الغرب، فضلاً عن الإنسان ومكوّنات حقوقه وكرامته، بعيداً عن مركزية الرؤية الغربية.

ذلك هو التناول الغربي الحضاري للحرب، وباعتبار المقولة "ربّ ضارة نافعة" لعلّ الأمر يكون عودة إلى الوعي في العقل العربي، ويستفيق من سباته الذي حاول، فيه، نسيان تلك الحقيقة المرّة التي تظهر الغرب عنصرياً إلى أبعد الحدود.