الثانوية العامة في مصر .. لجان الأكابر

الثانوية العامة في مصر .. لجان الأكابر وتغييب العدالة

14 اغسطس 2022

طالبات في مدرسة في القاهرة أثناء تأدية امتحانات الثانوية العامة (21/6/2020/Getty)

+ الخط -

ضجّة كبيرة تحيط بالثانوية العامة المصرية ونظامها وامتحاناتها ونتائجها كل عام، لكن هذه الضجة تأتي هذا العام بنكهة مختلفة، هي نكهة لجان الغشّ الجماعي ووسائل الغشّ الحديثة المعروفة بـ "لجان أبناء الأكابر". والعجيب أن وزير التربية والتعليم الحالي، طارق شوقي، أعلن مرارا أن ظاهرة هذه اللجان أصبحت من الماضي، ولكن يبدو أن الوزير الذي جاء من خلفية تقنية، باعتبارها الحل السحري لتطوير التعليم، نسي أن من يغشّون أيضا ربما يطوّرون أنفسهم أكثر من الوزارة بإمكاناتها.

نتحدّث هنا عن بعض اللجان في قنا وكفر الشيخ والشرقية وسوهاج، وإن كان الأبرز فيها هو حالة لجان مدرستين في سوهاج، إحداهما في دار السلام والأخرى في مركز ومدينة جهينة، حيث تفاخرت عائلتان بقوائم الناجحين من أبنائهم بمجموع أكبر من 90% بشكل قبلي مبالغ فيه، ما أثار الشك في اللجنتين، حيث يصعب منطقيا أن يتوافق وجود كل هذا العدد من الطلبة من عائلة واحدة بمدرسة واحدة ويكون تفوقهم مصادفة. والعجيب في مدرسة في إحدى مدن سوهاج ما نشره أحد الأشخاص بأرقام جلوس 163 طالباً بأرقام متسلسلة بنتائجهم التي يمكن لأي أحد أن يتحقق منها عبر المواقع الإلكترونية للتحقق من النتيجة. وبالتأكيد، ليس من المصادفة أن يحصل كل هذا العدد من الطلبة قي مدرسة واحدة على مجموع أعلى من 90% في نظام التعليم الجديد أو القديم حتى، لكن العجب يزول تدريجيا عندما يقترن اسما نائبي الدائرتين بأسماء العائلتين اللتين تفاخرتا بغشّ أبنائهما على مواقع التواصل.

يتحدّث معلمون عديدون وصفحات عن تلك اللجان أنه يتم تحويل مبالغ مالية كبيرة إليها، على الرغم من الوقف الرسمي للتحويلات. وخلافا لعملية التحويل في باقي المدن والمناطق، كما يتحدّث معلمون ومراقبون أيضا أن امتحانات الثانوية في هاتين المدينتين تجري فيها عمليات الغشّ تحت تهديد سلاح قبلي شديد. والمدينتان مشهورتان بانتشار السلاح فيهما، وتتفاخر به القبائل، كما لو كنّا في ساحة حرب، ما يتجلى في الأفراح، وأيضا في المشاجرات وعمليات الثأر.

يسيء الغش لسمعة التعليم في مصر، في الداخل وفي الدول التي تستورد عمالة مصرية مهنية في هذه المجالات

يسيء هذا الحدث إلى التعليم المصري وإلى كل المصريين إذا تم تمريره هكذا من دون تحقيق جاد، وعقوبة مناسبة على هؤلاء الغشاشين ومن ساعدهم، أقلها إعادة امتحان للطلبة وعقوبة مناسبة للمراقبين على تلك اللجان ومن تورّط من المتنفذين في الضغط من أجل تمرير هذا الغشّ بهذه السهولة، كما يسيء، بصفة خاصة، لسمعة الأطباء والمهندسين المصريين بسبب الضجة الكبيرة بشأن الحدث، فإذا جرى تمريره من دون عقاب رادع يضمن عدم تكراره، نكون إزاء تراجع كبير لسمعة هذه الكليات ولسمعة التعليم في مصر، في الداخل وفي الدول التي تستورد عمالة مصرية مهنية في هذه المجالات، ولديها سمعة مشرفة فيها، وإن كانت النظرة إلى المصريين في تراجع، بسبب مثل تلك الحوادث. كما يسيء مثل هذا الحدث لتلك العائلات بالذات، حيث إنها لم تكتف بالغش، بل إن الصفحات القبلية التابعة لها أصرّت على الاحتفال والاحتفاء بالغش، ومفاخرة العائلات الأخرى بهذه الدرجات، سواء على أساس جغرافي أو قبلي يتنافى مع منطق الدولة الحديثة التي لديها نظام تعليمي خرّج مئات الآلاف من الأطباء والمهندسين على مدار تاريخ الثانوية العامة من دون غشٍّ كهذا أو تفاخر به. لو كنت طبيبا أو مهندسا من تلك العائلات، سوف تشعر بالحرج من أن تضيف اسم العائلة إلى أي لافتة دعائية لك، لأنه قد يقال عائلة الغشّاشين بسبب هذا التصرف الدنيء لقلة من أبناء تلك العائلات والمدن.

من الخطأ الكارثي اقتران اسم سوهاج بالغشّ، وهي محافظة يقطنها أكثر من خمسة ملايين ونصف

وفي مجتمع يُربّيه الجيش على معايير أن السيئة تعمّ والحسنة تخصّ، وفي ضوء متابعتنا الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي، من الخطأ الكارثي اقتران اسم سوهاج بالغشّ، وهي محافظة يقطنها أكثر من خمسة ملايين ونصف، أي أن تعدادها أكبر من بعض دول المنطقة، وفيها عشرات المدارس الثانوية، بينما ما حدث هو حالات غشّ في أقل مدنها سكانا، وفي لجنتين فقط من عشرات اللجان بهاتين المدينتين، وهي التي أنجبت رفاعة الطهطاوي والإمام محمد مصطفى المراغي ومئات العلماء في مناحي الحياة.

ومدار الأمر هنا أنه لا ينبغي إسقاط مبدأ العدالة وتكافؤ الفرص القائم على أن الجميع أمام ورقة الامتحان سواء، لا يفرّقهم سوى مجهودهم الشخصي في المذاكرة في أثناء العام الدراسي برمته. وإذا سقط هذا المبدأ هنا، فنحن أمام سقطة كبيرة لمفهوم العدالة. وإذا ما ثبتت الارتباطات القبلية المتنفذة في البرلمان أو الوزارات المختلفة مع حالات الغشّ الجماعي هذه، والتي تجري بشكل ممنهج بالنقل إلى تلك المدارس أولا، ثم بتأمين الغش عبر سمّاعات "بلوتوث" والإجابات النموذجية المرسلة عبر "واتساب"، فإننا أمام رعاية الدولة لتغييب هذا المفهوم للعدالة، وهو ما لا يتمنّاه أحد، ولا يكفي لتجنّبه مجرّد حجب نتائج المدارس المشكوك فيها فترة ثم المضي من دون عدالة.

عندما يصبح الغشّ والفهلوة والنجاح السهل معايير أبناء الأكابر ومعايير الصعود في مجتمع ما، وتصبح إحدى مقولاته الرئيسية "يعمل إيه التعليم في وطن ضايع"، وفي إطار حملات التشويه والتسخيف والسخرية المستمرّة من كل ما هو حكومي، بينما أوائل الجمهورية كلهم خرّيجو مدارس حكومية، فإننا إزاء تدمير ممنهج لهذا المجتمع وتعليمه، فلا يُنتظر من أحد في الداخل أو الخارج أن يقدّر العلم والعلماء من أبناء هذا المجتمع.

عندما يجري التساهل مع الغشّ تحت تهديد السلاح القبلي المتدثر بالسلطة والنفوذ، أو تمريره، يصبح مفهوم الدولة الحديثة في خطر

الشيء المفرح الوحيد في الأمر هنا حالة الاستهجان الشديد للغشّ، والتي جعلت الخبر والكوميكس المرتبطة به ينتشران، ويشكلان ضغطا على الوزارة، لتفتح تحقيقا يأمل الجميع أن يعيد الأمور إلى نصابها، وألا تتسبب الضغوط على الوزارة ولجان التحقيق في ضياع ما تبقّى من مصداقية وعدالة ونزاهة الثانوية العامة معيارا عادلا وحيدا متبقيا من تراث الدولة والعدالة في مصر المحروسة لم تطله يد الواسطة إلى حد كبير، ولا يزال هناك حد أدنى من الإجماع على عدالته والتعامل معه بجدّية واجتهاد على هذا الأساس.

وعندما يتم التساهل مع الغشّ تحت تهديد السلاح القبلي المتدثر بالسلطة والنفوذ، أو تمريره هكذا، فإن مفهوم الدولة الحديثة ذاته يصبح في خطر، وليس فقط منطق العدالة أو نظام التعليم الحديث الذي يفترض دستوريا أن يوفر التعليم الجيد للجميع بعدالة ومساواة، وفي ظل بنود دستورية محدّدة، لرفع الإنفاق عليه، وصولا إلى المعدّلات العالمية. وإذا كان هؤلاء مصرّين على استخدام النفوذ والفساد والسلاح لإثبات جدارتهم، يمكنهم أن يبتعدوا عن نظام التعليم الحكومي برمته، ويذهبوا بأبنائهم إلى التعليم الخاص المحلي أو الدولي، وبالتأكيد فتكلفته أرخص من تكلفة الأسلحة التي يتفاخرون بها، لكنه لن يحقّق لهم الفخر المرجوّ.