إعادة إنتاج الهيمنة المذهبية في لبنان

إعادة إنتاج الهيمنة المذهبية في لبنان

15 مايو 2023
+ الخط -

أقدم حزب الله في 7 مايو/ أيار 2008، وعلى خلفية قرار حكومي بمصادرة سلاح الإشارة التابع لمليشياته وإقالة جهاز أمن المطار العميد شقير المحسوب من حصة الثنائي الشيعي، على إطاحة ما تبقى من انتظام في الدولة اللبنانية التي كانت تترنّح منذ لحظة اغتيال الرئيس رفيق الحريري في 14 فبراير/ شباط 2005. وكان الترنّح نتيجة عدّة ضربات، في مقدمتها استكمال اغتيال قيادات حركة 14 آذار (اتهمت المحكمة الدولية الخاصة بلبنان عناصر من حزب الله بالاغتيال)، مرورًا بحرب تموز وتداعياتها على مستوى تهديم البنى التحتية للدولة، وتعطيل الدولة أكثر من سنة ونصف السنة عندما افترش حزب الله وحلفاؤه وسط بيروت بغرض إقالة حكومة فؤاد السنيورة، وصولًا إلى غزوة 7 مايو/ أيار وغزو حزب الله وحلفائه العسكريين العاصمة بيروت، ومن ثم فرضه خيارات سياسية على ناسها وعلى بقية الأطراف السياسية فيها. وأدّت هذه الحركة إلى اتفاق الدوحة، الذي أخذته قطر على عاتقها عندما حاولت ضخّ بعض الروح في اتفاق الطائف الذي كان بمثابة إعلان انتهاء الحرب الأهلية.
هذا في الظاهر، أما في الباطن، كانت غزوة 7 أيار أكثر من مجرّد حدث عرضي في تاريخ الدولة اللبنانية، فقد أعلنت عن تغيّر مفصلي سيُترجم ممارسيًا في تغير أسلوب إدارة البلاد جرّاء اختلاف نقطة ارتكاز القوة في الدولة وأثرها في كيفيّة صنع القرار، إذ لم يكن مجرّد تغيير كمّي في النظام، بل كان تبدّلاً نوعياً في كيفية إدارة الدولة، وفي كيفية التناوب الظاهر على تغطية حكم حزب الله.

لا يمكن لأحد إنكار أن غزوة 7 أيار بمثابة مشروع مذهبي جديد، حاول حزب الله إظهاره في شكلٍ مختلف

لاحقاً، حاول اتفاق الدوحة بثّ بعض الروح في الدولة اللبنانية لناحية الانتظام في العمل وفي تأدية المهام الدولتية، لكن ذلك لم يستمر طويلًا، إذ سرعان ما انقلب حزب الله على مفاعيله، وصولاً إلى دخوله، وبشكل علني، في انتشاره خارج الحدود ودخوله مباشرة في الدفاع عن نظام الأسد وقمعه الثورة السورية. لقد انتصر المشروع الإيراني في الهيمنة على العاصمة العربية الثانية بعد بغداد، ووضعها تحت نفوذه المباشر، وسرعان ما كرّت السبحة وهيمن على سورية واليمن. 
لكن مراقبة النماذج التي أنتجتها إيران في مناطق نفوذها سرعان ما يظهر مشروعها التدميري، إذ كل ما تطمح إليه هو استكمال ما كانت قد كرّسته الأنظمة لناحية شراء الذمم وتعطيل القوانين وعطب المجتمع، أي تحويل المراوحة إلى ما يتخطّى كونها مجرّد خطوة تدميرية ضرورية في مشروع بنائي طويل الأمد، بل كان هم النموذج الإيراني، كما كل مشروع توسّعي، كيفية الإمعان في تكسير المجتمعات وتأجيج الخلافات بين عناصرها المكوّنة. لقد حولّت إيران ومليشياتها العواصم التي احتلتها إلى كتل من التوتر، كتل تبتزّ من خلالها عواصم العالم.
لا يمكن لأحد إنكار أن غزوة 7 أيار بمثابة مشروع مذهبي جديد، حاول حزب الله إظهاره في شكلٍ مختلف، فهو انتقال للبلد من هيمنة طائفية إلى هيمنة مذهبية، من سطوة رفيق الحريري وما كان يمثله من نقطة قوّة سنّية في النظام، إلى سطوة حزب الله وما يمثله من قوّة شيعية تهيمن على مفاصل الدولة وأجهزتها وقضائها، فمن غير الخفي أن تلك الغزوة مثّلت نقطة انتهاء مشروع الحريرية السياسية، فأصبح ما تبقّى منه بمثابة نسخةٍ رديئةٍ استخدمها حزب الله غطاء لمشروعه السياسي، أي أبقاها متراسًا يختبئ خلفها، لأنه يعلم جيدًا أن لا مشروع سياسياً اقتصادياً يدير من خلاله الدولة ويسيّر شؤون ناسها.

ساهمت غزوة 7 أيار في بيروت بانهيار الدولة وانحلال المجتمع بشكل كامل

لم تكن غزوة السابع من أيار محاولةً لإعادة وضع الدولة على سكّة الحلول، كما أوهمت الطبقة الحاكمة، وحزب الله من خلفها، العالم بأكمله. كانت بمثابة إعادة إنتاج لمشروع مذهبي ينتج هيمنة طائفية تستثير كافة العصبيات التي تؤدي إلى الإمعان في خراب الدولة الطائفية المعطوبة. لقد كان مشروع حزب الله مأزوما لدرجة أنه لم يتجرأ من بعدها، باستثناء إعلان نصر الله أنه يوم مجيد، أن يتبنى تداعياته، لأنّه يعلم علم اليقين أنه مشروعٌ فاشل ومأزوم بالضرورة، مشروع فاشل في دولة لطالما فشلت في مشاريعها الطائفية.
اليوم، وبعد 15 عاماً على ذلك اليوم، وصل اللبنانيون إلى النتيجة الحتمية التي كانت قد تأسّست، ومن دون أيّ وعي، منذ إعلان دولة لبنان وتكرّست منذ انتهاء الحرب الأهلية. لقد ساهمت تلك الغزوة بانهيار الدولة وانحلال المجتمع بشكل كامل وتام، وبتكريس خطاب مذهبي لم تشهده البلاد في عز الحرب الأهلية. ففي حين يعلم الجميع أن الدولة الطائفية والاقتصاد الاستهلاكي الريعي لا يمكنهما أن يشكّلا أي بادرة علاج لما تعانيه الدولة اللبنانية منذ نشأتها، ها نحن اليوم نتصادم مع تبعات تكرار المجرَّب، مع إعادة لنظام تقودُه طبقةٌ تنافق أي مبادرة عربية أو دولية، وصولًا إلى أنها تكذب على صندوق النقد الدولي بشكل علني، ولا تريد القيام بأية إصلاحات جدّية وحقيقية. 
ها نحن اليوم، بعد سنوات على ما أسماه "اليوم المجيد" وصلنا إلى مفاعيله عندما واجه أمين عام حزب الله، حسن نصر الله، الانتفاضة الشعبية، فوضع النظام وكل الرئاسات والمراكز الطائفية تحت عمامته، وصلنا إلى يوم انهيار حقيقي للدولة الطائفية، انهيار يحاول حزب الله وغيره معالجته بمحاولة إنتاج النظام نفسه، النظام الذي لا يمكن أن تنشأ وتعيش هذه الأحزاب الفِطرية إلا في ظله.

باسل. ف. صالح
باسل. ف. صالح
كاتب لبناني، أستاذ الفلسفة في الجامعة اللبنانية