إسرائيل من العزلة إلى الاندماج

إسرائيل من العزلة إلى الاندماج

20 يونيو 2022
+ الخط -

تحكي التوراة أن ملكاً لمؤآب (إحدى ممالك صغيرة كانت تسكن فلسطين قديما) استدعى رجلا صالحا، يسمى بلعام بن بعور، ليلعن بني إسرائيل بعد خروجهم من مصر؛ فلم يستطع هذا أن يفعل، وكانت أولى عباراته في وصفه بني إسرائيل، والتي سيكون لها تأثير كبير لاحقا على الشخصية الإسرائيلية والروح اليهودية "هو ذا شعب يسكن وحده" (العدد 23: 9).
حين ننظر إلى تاريخ اليهود كله تقريبا، سوف ندرك مدى تطابق هذه العبارة مع الروح اليهودية، وكيف أنهم عاشوا، في أغلب الأحيان، عزلةً اختياريةً قلّما فرضت عليهم. ولقد كانت نظرة اليهود إلى أنفسهم بأنهم شعب الله المختار أحد أهم أسباب هذه العزلة، والتي أسهمت لاحقا في تنامي المشاعر العدائية تجاههم، ما أورثهم شعورا داخليا بأنهم منبوذون من "الجوييم"، تلك الكلمة التي أطلقها التقليد اليهودي على كل الأمم من غير بني إسرائيل، والتي عادة ما كانت ترتبط بنظرةٍ دونيةٍ إلى هذه الأمم في التراث اليهودي.
وقد كانت حارة اليهود أو الجيتو تعبيرا دائما عن هذه العزلة. وإذا كان من الإنصاف أن نقول إن اليهود، في فترات معينة أو بيئات جغرافية وثقافية بعينها، كان يفرض عليهم الانعزال في الجيتو، فإن من المنصف كذلك أن نؤكّد على أن الجيتو، في أغلب الحالات، كان صناعة يهودية بامتياز، حتى في أكثر البلدان تسامحا وقبولا لهم، لأنها كانت توفّر لهم ذلك الإحساس الذي عبّر عنه بلعام بن بعور قديما. وقد كان الإحساس بالعزلة أحد العوامل المحرّكة للسياسة الإسرائيلية منذ اللحظات الأولى لاغتصاب فلسطين وإعلان دولة إسرائيل في عام 1948، ولطالما وظّف السياسيون وكبار القيادات الإسرائيلية حديث العزلة في خطابهم السياسي، وهو الحديث الذي يتناسب مع طبيعة المجتمع الذي يعتبر كل أفراده مجنّدين بشكل فعلي.

انتصار إسرائيل في حرب 1967 لم يُحدث تغييرا في نظرة إسرائيل إلى نفسها دولة معزولة، رغم أنها عمليا لم تكن كذلك حينها

في نهاية الخمسينيات من القرن الماضي، كتب إيغآل ألون (أحد الساسة البارزين، تولى رئاسة الوزراء بالنيابة بين عامي 68/1969 بعد موت ليفي أشكول، فضلا عن توليه عدة وزارات)، يعبّر عن هذه العزلة "إسرائيل دولة منبوذة بشكل استثنائي، وباستثناء علاقاتها مع يهود العالم، فإنها لا تحظى بعلاقات إثنية أو دينية مع أي أمة أخرى"، وقد كان هذا شعور القيادة الإسرائيلية في ذلك الوقت. وإذا كان من الممكن تفهّم هذا الكلام بين إعلان قيام إسرائيل في 1948 حتى 1967، حيث كانت الجهود العربية الداعية إلى مقاطعة إسرائيل تحقّق نجاحات دبلوماسية جزئية على المستوى الدولي، فقد أخذت العزلة طابعا مؤسّسيا منذ انضمام إسرائيل للأمم المتحدة عام 1949، حين نجحت الدول العربية في منع قبول إسرائيل في عضوية المنطقة الآسيوية في الأمم المتحدة، وهذا أعاق انضمام إسرائيل إلى المؤسسات الدولية المرتبطة بالأمم المتحدة، لأن الانضمام إليها كان مرتبطا بأن تكون إسرائيل منضمّة إلى منطقتها. وما يدفع إلى القول هنا إن تلك المقاطعة كانت جزئية أن إسرائيل في 1967 كانت تقيم علاقات دبلوماسية مع 98 دولة، وهو ما يمثل نسبة 80% من دول العالم في ذلك الوقت. وإذا كان من الممكن فهم حديث العزلة هذا قبل عام 1967، فكيف يمكن فهمه بعد هذا التاريخ الذي كانت إسرائيل فيه تقيم علاقات دبلوماسية معلنة مع أكثر الدول، هذا غير العلاقات السرّية بالطبع مع دول وأقليات عديدة كانت تعلن مقاطعتها إسرائيل، وبعضها كانت دولا أو أقليات عربية وإسلامية؛ ومن هذه الأقليات أكراد العراق، وموارنة لبنان، ومسيحيو جنوب السودان.
الحقيقة أن انتصار إسرائيل في حرب 1967 لم يُحدث تغييرا في نظرة إسرائيل إلى نفسها دولة معزولة، رغم أنها عمليا لم تكن كذلك حينها. كان الشعور بالعزلة تعبيرا عن حالةٍ نفسيةٍ لا تنفصل عن الشخصية الإسرائيلية، وقد عبّر الحاخام والدبلوماسي، يعقوب هرتسوغ، الذي خدم في مناصب سياسية عدة بين عامي 1948 – 1972 عن ذلك المعنى بشكل جيد في 1968 بقوله "هذه العزلة لا تجعلنا نفهم سبب وجودنا فحسب، ولا حقنا في الوجود، إنها تتخطّى ذلك لتجعلنا ندرك قدراتنا. إن هذه العزلة، التي هي من طبيعة الشعب اليهودي، هي المفتاح لأن نؤمن بأنفسنا، وأن نترجم هذا الإيمان إلى عمل".

مفهوم العزلة لم يكن خاصّا بتيار سياسي دون غيره، فقد كان مفهوما متوارثا لدى اليمين واليسار على السواء

قيلت هذه الكلمات بعد حرب 1967، أي بعد أن تشعبت علاقات إسرائيل الدولية، وهذا يعني أن العزلة صفة أساسية من صفات الشعب اليهودي عبر تاريخه، وهو المعنى الذي أشار إليه شيمون بيريس في 1970، حين كتب واصفا تلك العزلة بأنها "العزلة التي تميز تاريخ الشعب اليهودي". وقد كانت غولدا مائير أكثر من عبّر عن هذا المعنى بشكل حاد في مذكّراتها، حين كتبت "ليس لنا هنا عائلة، ولا أحد يشاركنا ديننا، ولا لغتنا ولا ماضينا، ويبدو وكأن العالم كله قد اجتمع في تكتلاتٍ نشأت لأن الجغرافيا والتاريخ قد أعطيا هذه التكتلات مصالح مشتركة، لكن جيراننا، وحلفاءنا المفترضين، لا يريدون أي اتصال معنا. وفي الحقيقة، نحن لا ننتمي لأي مكان، ولا لأي أحد سوى أنفسنا". ويبدو أن كلمات غولدا مائير كانت صدى لكلمات بن غوريون التي ألقاها عام 1971 في الجلسة الاحتفالية التي عقدها الكنيست احتفالا به لبلوغه عامه الخامس والثمانين "نحن شعبٌ يسكن منعزلا، جيراننا القريبون إلينا من ناحية الجغرافيا، وحتى من ناحية العرق واللغة، هم للأسف ألد أعدائنا على الإطلاق، أما حليفنا الأمين الوحيد فهو الشعب اليهودي".
كان مفهوم العزلة مصاحبا كذلك للعاملين في مجالي الدفاع والاستخبارات؛ فقد كتب رئيس الموساد 1998-2002، إفرايم ليفي"في الأعوام الثلاثين الأولى من قيامها، كانت إسرائيل معزولة في قلب المنطقة الشرقية من الشرق الأوسط، ولم يكن لديها أي اتصال مباشر أو واسع مع منافسيها"، بل إن هذا الشعور العميق بالعزلة جعل يوسي ألبر، وهو أحد رجال الموساد، يؤلف كتابا عنوانه "الدولة المعزولة".
ومن الضروري هنا التأكيد على أن مفهوم العزلة لم يكن خاصّا بتيار سياسي دون غيره، فقد كان مفهوما متوارثا لدى اليمين واليسار على السواء، وقد كتب إفرايم سانيه في مذكّراته أن أباه موشيه سانيه، وهو من مؤسسي حزب المابام (حزب العمال المتحدين)، وأحد زعماء الصهيونيين العموميين، ثم الحزب الشيوعي، كان يقول "على اليهودي على مدار الأجيال أن يرى نفسه وكأنه قد خرج من معسكرات الاعتقال في أوشفيتس". وقد علق إفرايم على ذلك بأن أباه كان يقصد "أن المحرقة التي أظهرت أننا شعب ضعيف، معزول وبلا دولة ومشتت بين الشعوب يجب أن تكون عبرة أمام أعيننا دائما، حتى وإن كنا نمتلك دولة وجيشا".

الصراع الممتد بين العرب وإسرائيل هو الذي جعلها ترى أن العرب تحديدا هم "الغوييم" الذي كانوا يريدون عزل إسرائيل وتدميرها

وقد أطلق أستاذ علم النفس الاجتماعي والسياسي، دانيال برطل، على هذا المفهوم اسم "عقلية الحصار"، وهي المسؤولة عن أن المجتمع الإسرائيلي، وفي مقدمته صانعو القرار بالطبع يقوده اعتقاد بأن بقية العالم (الغوييم) ينظر نظرة سلبية إلى اليهود، ويسعى إلى عزلهم وتدميرهم. وفي ظل التغيرات السياسية الكبيرة التي شهدتها المنطقة خلال العقود الثلاثة الأخيرة، ينبغي أن نسأل: هل ما زال شعور العزلة يسيطر على عقلية متّخذي القرار في إسرائيل؟
لقد تغيرت الأمور تماما، واختفى حديث العزلة؛ فالصراع الممتد بين العرب وإسرائيل هو الذي جعلها ترى أن العرب تحديدا هم "الغوييم" الذي كانوا يريدون عزل إسرائيل وتدميرها، وإذا كانت اتفاقيات السلام المتتابعة، بداية من كامب ديفيد ومرورا بوادي عربة وأوسلو وصولا إلى اتفاق أبراهام، قد عملت على إنهاء هذا الصراع، ودمج إسرائيل في المنطقة في تحالفاتٍ غير مسبوقة، فإن اختفاء الحديث عن هذه العزلة يصبح أمرا طبيعيا. وقد عبر رئيس الحكومة الأسبق، إسحاق رابين، عن هذا المعنى بمنتهى الوضوح بعد اتفاق أوسلو؛ حين انتقد شعور العزلة الذي رافق إسرائيل منذ فجر تأسيسها بقوله: "لم نعد بالتأكيد شعبا معزولا، ولم يعد من الصواب أن نعتبر العالم كله ضدنا، ينبغي أن نتخلّص من إحساس العزلة الذي يتملكّنا منذ خمسين عاما".
ومع تنامي العلاقات العربية الإسرائيلية، وخصوصا بعد اتفاق أبراهام، تحوّل الحديث من نفي الشعور بالعزلة، إلى التأكيد على أن إسرائيل لم تعد تلك الدولة المعزولة عن محيطها، وهذا يكشف إلى أي مدى كانت هذه الاتفاقيات في صالح إسرائيل، وأن هذه الاتفاقيات كانت بمثابة العلاج الذي وفّر لإسرائيل وسيلة للتداوي من عقدةٍ نفسيةٍ قديمةٍ لم تتمكّن يوما من معالجتها طوال تاريخها.

أحمد الجندي
أحمد الجندي
كاتب مصري، أستاذ الدراسات اليهودية والصهيونية في جامعة القاهرة، له كتب ودراسات حول الملل اليهودية المعاصرة وأيديولوجيا تفسير العهد القديم.