أيَ سيناريوهات لتسوية الأزمة السياسية في تونس؟

أيَ سيناريوهات لتسوية الأزمة السياسية في تونس؟

25 يونيو 2021
+ الخط -

أمام انسداد سياسي خانق، وفي تداعيات قاسية لجائحة كورونا، أصبحت في غضونها محافظات تونسية عديدة توصف بالموبوءة، منها القيروان وسليانة وباجة ومنوبة، اتجهت أنظار التونسيين الذين عيل صبرهم من ظروف معيشية قاسية إلى لقاء جرى أمس الخميس بين رئيسي الجمهورية قيس سعيّد والبرلمان راشد الغنوشي، يعوّل عليه الجميع في إمكانيات ردم الهوة وإذابة الجليد بين الرجلين، وما سيترتب عن ذلك من سيناريوهات خروج البلاد من نفق الأزمات الذي تردّت فيه.

عوامل عديدة عجلت برغبة الرجلين في اللقاء، لعل أهمها العزلة التي أطبق بها سعيّد على نفسه بعد خلافه مع الاتحاد العام التونسي للشغل، وانقلابه على مبادرة الحوار التي اقترحها عليه الأمين العام نور الدين الطبوبي، قبل أشهر. ولكن الرئيس، بعد لقائه مع الطبوبي، في 11 يونيو/ حزيران الحالي، ومباركته المبادرة وقبوله بها، وبالتحوير (التعديل) الوزاري المعطل منذ أشهر، عاد بعد يومين ليعلن للطبوبي شرطه الأول، رحيل رئيس الحكومة هشام المشيشي وحكومته قبل أي حوار. وزاد الطين بلّة نعت الرئيس الحوار الوطني الذي قاده الاتحاد في العام 2013، وتوّج بجائزة نوبل للسلام، بأنه غير وطني ومن قاموا به ليسوا وطنيين. وكان هذا التصريح للرئيس موضوعا محوريا للهيئة التنفيذية للمنظمة النقابية التي أعلنت رفضها له، وتخلّيها عن مبادرة الحوار الذي كان من المؤمل أن يقوده رئيس الجمهورية. ومع إعلانه أهمية العودة إلى دستور 1959، يوم 22 يونيو/ حزيران الجاري، وجد سعيّد نفسه محلّ انتقادات ومناكفات من الأصدقاء قبل "الأعداء"، فقد سارع أساتذة القانون الدستوري والأحزاب، وكذا منظمات وطنية كثيرة، إلى التصدّي لما اعتبر انقلابا على دستور 2014 الذي أقسم سعيّد على احترامه، ناعتين إعلانه ذاك بالانحراف، بل اعتبروه شهادة على نوايا الرجل ورغبته في تعليق العمل بدستور 2014، وكشفا صريحا لشهوة جامحةٍ تسكنه في العودة الى نظام رئاسوي يمكَنه من كل الصلاحيات، ومنزلقا للاستبداد الذي عانت منه البلاد في عهدي الحبيب بورقيبة وزين العابدين بن علي. ولعل أخطر ردود الفعل التي أثارها هذا التصريح اعتبار سعيد "فاقدا شرعيته رئيسا"، على حد وصف الوزير والقيادي السابق في حزب آفاق تونس، فوزي عبد الرحمن.

وقد ذهب كثيرون من المهتمين بالشأن العام إلى أن رئيس الجمهورية، وأمام الأزمة الطاحنة لجائحة كورونا، والتي يتابع التونسيون مشاهدها المؤلمة، كان من الأجدى أن يدعو مجلس الأمن القومي إلى الانعقاد العاجل لمعالجة هذا الوضع المأساوي. ولكن سعيّد بدا متباطئا في ذلك، ولم يُبادر إلى شيءٍ من هذا، بسبب عدم رغبته في لقاء رئيس البرلمان وعضو مجلس الأمن القومي راشد الغنوشي. وقد أغضبت تصريحاته ومواقفه هذه، من جهة أخرى، أبرز شركائه السياسيين، التيار الديمقراطي وحركة الشعب، اللذين تبرّآ علنا من أي تحالف قادم معه، كما جاء في تصريح كل من أمين عام التيار غازي الشواشي، وتسريبات رئيس الكتلة البرلمانية السابق محمد عمّار، معتبرين سعيّد سببا للتوتر النيابي الناتج عن عدم تمرير قانون المحكمة الدستورية، علاوة على "انقلابه الواضح على الدستور".

مع إعلانه أهمية العودة إلى دستور 1959، وجد سعيّد نفسه محل انتقادات ومناكفات من الأصدقاء قبل "الأعداء" 

في هذه الأجواء المتوترة، نشرت رئاسة الجمهورية بيانا أفاد بأن الرئيس التقى مع لطفي زيتون، القيادي المستقيل من حركة النهضة والمستشار السياسي السابق للغنوشي، وحسب مصادر قريبة من القصر، كان محور اللقاء بداية بلورة مبادرة سياسية تنطلق بلقاء سعيّد بالغنوشي، وذلك ما أكّدته تدوينةٌ نشرت على صفحة الغنوشي في "فيسبوك"، صباح اليوم التالي، أعلن فيها أنه استقبل زيتون الذي اقترح عليه أن يلتقي الرئيس سعيّد، وهو ما رحب به معلنا أنه "مع الحوار للخروج من الأزمة". وكان لقاء تلفزيوني للغنوشي مبرمجا يوم الثلاثاء، 22 يونيو، وجرى تأجيله، في إشارة إلى أن الحوار قد يعلن فيه الغنوشي مبادرة بديلة في الأفق. ومما يؤكد وساطة لطفي زيتون بين سعيّد والغنوشي من أجل تجاوز الأزمة السياسية الخانقة لقاؤه بعيد ساعات أمين عام الاتحاد نور الدين الطبوبي. وقد يجري تتويج هذه اللقاءات الثلاثة بسيناريوهات محتملة للتسوية السياسية المعطلة منذ أشهر، منها ما كشفته تسريبات مضمونها دعوة رئيس الحكومة هشام المشيشي إلى تشكيل حكومة سياسية، وهي مبادرةٌ أعلنتها حركة النهضة قبل هذا التوقيت، ولكنها أجلت الحسم فيها، وربما تخلت عنها من أجل الوصول إلى تسوية سياسية مع سعيد، ستكون "النهضة" فيه المفاوض الأقوى، بعد أن بات سعيّد شبه معزول في المشهد السياسي، على خلفية تحركاته وتصريحاته المرتبكة، أخيرا، في علاقة بإثارة العمل بدستور 1959. وربما ناقش اللقاء بين الرجلين عناصر هذه التسوية، ومن المؤكّد أن يكون عنصرها الأساسي حكومة المشيشي ومصيرها. وهنا ستجد "النهضة" نفسها ملزمةً بالوضوح إزاء هذه الحكومة التي قادت حزامها السياسي، ورفضت، بموجب ذلك، أي تغييرٍ لرئيسها، ولكنها الأقرب إلى فرض مخرجات اللقاء. أما سعيّد الذي يعتبر، على العكس من ذلك، أنه لا مكان للمشيشي وحكومته في أي حل للخروج من الأزمة الراهنة، فقد يُجبر على التخلي عن ذلك مقابل فكّ جدران عزلته، والعودة إلى صورة الرئيس المجمّع لكل التونسيين، والمحترم للدستور، بعدما اهتزّت هذه الصورة، وأصبحت محلّ تندّر من الجميع.

قد يُجبر سعيد على التخلي عن مطلبه إقالة حكومة المشيشي مقابل فكّ جدران عزلته

وتسعى حركة النهضة إلى إصابة أهداف عدة من هذا اللقاء، ليس أقلها تنازل الرئاسة، وإنهاء حالة العداء ضدها، والالتزام من الرئيس بحماية رئيس الحركة في البرلمان، ووقف تصريحاته المعادية له، وبالتالي العودة إلى قيادة المشهد السياسي في تونس. هذا اللقاء، والذي سيمهد لحوار وطني ينهي الأزمة تحفّه صعوباتٌ جمّة، أبرزها موقف قيس سعيّد من حزب نبيل القروي، قلب تونس، والحليف الاستراتيجي لحركة النهضة، والذي ينعته سعيّد بالفساد، فضلا عن كتلة ائتلاف الكرامة الداعمة للحركة، والتي لا يقبل سعيّد كذلك بإشراكها في الحوار، علما أن الغنوشي، إذا استطاع التضحية برئيس الحكومة هشام المشيشي، فإنه لا يستطيع التضحية بهما، لأنهما يوفران لحركة النهضة الأغلبية البرلمانية المريحة، والأوكسيجين الذي تتنفسه. كذلك ما أعلن عنه، مساء الثلاثاء 22 يونيو/ حزيران الحالي، رئيس الحكومة المشيشي، لإذاعة خاصة، أن "استقالته من منصبه غير مطروحة نهائيا"، مشدّدا على أن المطروح أمامه اليوم إنقاذ البلاد والوضعية الاقتصادية والاجتماعية، وخصوصا تداعيات جائحة كورونا، ناعتا المكونات الأساسية في المشهد السياسي بأنها "ما زالت في حملة انتخابية مستمرة"، قائلا "من يتحدّث عن استقالتي لا يعرفني، فأنا إنسان مسؤول، ولا أتخلّى عن المسؤولية"، مضيفا في علاقةٍ بإمكانية تشكيل حكومة أخرى، والبقاء على رأسها "سبق أن أدخلت تحويرا على الحكومة الحالية، وحصل ما حصل ولم يتم فض هذا الإشكال، ربما يمكن عندها الحديث في مواضيع أخرى". كما اعتبر أمين عام الحزب الجمهوري، عصام الشابي، أن الدعوة إلى تشكيل حكومة سياسية برئاسة المشيشي التي يقترحها رئيس حركة النهضة لا يمكن أن تكون حلا للأزمة السياسية والاقتصادية الراهنة في تونس، وأن "النهضة" تريد، بهذه المبادرة، السيطرة على الحكم تحت غطاء "حكومة سياسية". وتحفّ باللقاء كذلك صعوبة أخرى، تتمثل في مصالحة ضرورية بين الاتحاد العام التونسي للشغل و"النهضة"، في أعقاب أزمة مستجدّة سببها تصريحات اعتبرتها الحركة غير موفقة وغير مسؤولة في حقها، أدلى بها أمين عام الاتحاد نور الدين الطبوبي.

موقف زعيم حزب قلب تونس، المغادر سجنه أخيرا، وأحد الداعمين الأساسيين لحكومة المشيشي، ما زال غير معلن، وهو موقفٌ وازنٌ في تحديد النتائج التي قد تتوّج اللقاء المرتقب. علما أن معطياتٍ مؤكّدة تكشف دعوات خارجية أميركية وأوروبية من أجل وضع حد للفرقة السياسية بين الرؤساء الثلاثة، وفتح مجال لحوار ينهي هذا الانسداد الذي طال أكثر من اللازم.

وأمام هذه المعطيات، تبقى كل السيناريوهات واردة لتسوية سياسية محتملة، شرط توفّق سعيد والغنوشي في تحقيق اللقاء بينهما بما يمثله من أرضية ضرورية للبناء عليها، والانطلاق على أساسها إلى حوارٍ وطنيٍّ بمخرجات سياسية واقتصادية واجتماعية، تنهي جميع الأزمات، فهل ينسج الغنوشي مجدّدا على منوال لقائه بالباجي قايد السبسي في باريس، الذي أسّس للتوافق الوطني الذي عاشته تونس خلال خماسية الرئيس الراحل؟

35FE487F-4A9A-4B25-8DF9-AF430105714E
35FE487F-4A9A-4B25-8DF9-AF430105714E
محمد أحمد القابسي

كاتب وأكاديمي وشاعر تونسي

محمد أحمد القابسي