أخطأ عبّاس فاستحقّ بيان المثقّفين الفلسطينيين

أخطأ عبّاس فاستحقّ بيان المثقّفين الفلسطينيين

20 سبتمبر 2023
+ الخط -

لستُ من الأكاديميين والمثقفين الذين صاغوا بيان إدانة قول للرئيس الفلسطيني محمود عبّاس، صدر منه، عن الهولوكوست، ولا ممن نظّموا الحملة ودعوا إلى التوقيع على البيان الذي وصل إلي، ووقعت عليه لسبب واحد مهم، أن أي ربط ما بين القضية الفلسطينية والمحرقة مرفوض شكلاً ومضموناً، ويجب إدانته بصوت واضح، ذلك أن المحرقة جريمة نُفذت بأياد أوروبية، ولا علاقة للفلسطينيين بها من قريب أو بعيد، وعلى الأوروبيين الاعتذار عنها، بينما تستمد القضية الفلسطينية عدالتها من النكبة عام 1948، التي نفذت بأيد صهيونية، وعلى أرض فلسطين التاريخية، وما زالت مستمرّة بأشكال مختلفة من القتل وهدم البيوت والتهجير وغيرها. وأي ربط ما بين المسألتين، كما فعل محمود عبّاس، يزجّ الرواية الفلسطينية في جدل حول الجريمة والإبادة الجماعية والمشاعر العنصرية والنازية والفاشية. ولذا مجرّد الحديث في المسألتين في آن واحد مرفوض من حيث المبدأ، ويجب إدانته. المحرقة إثم أوروبي، فلماذا يجرّ محمود عبّاس القضية الفلسطينية إلى الجدل بشأنه. ولطالما حاولت الدعاية الصهيونية تاريخياً الربط بين الزعامات الفلسطينية والمحرقة، كاستخدام صورة اللقاء التي جمعت الحاج أمين الحسيني بهتلر ولم تنجح. للأسف، يأتي اليوم الرئيس محمود عبّاس، ويقدّم ربطا كهذا، فيخدم الدعاية الصهيونية بتفسيره أسباب المحرقة، أن هتلر قام بها ضد اليهود بسبب "الفعل الاجتماعي" لهم، المتمثل بالربا وغيره. تلقفت الدعاية الصهيونية كلامه هذا، ونشرته في العالم. وإزاء هذا الحال، بادرت مجموعة أكاديميين ومثقفين فلسطينيين إلى وضع الأمور في نصابها، فدانت ما قاله عبّاس، رافضة تحميل القضية الفلسطينية المرهقة بالاستعمار الكولونيالي الإسرائيلي بآثام جديدة، ليس لها علاقة بها من قريب أو بعيد.

قد يكون هؤلاء المبادرون أخطأوا في أجزاء من صياغة البيان، وقد نُشرت مقالاتٌ وآراء في هذا الشأن، ناقش الفكرة بالفكرة والحجّة بالحجّة، لأصحابها كل التقدير، إذ يصبّ نقاشٌ بنّاءٌ في تقوية عضد الحركة الوطنية الفلسطينية على اختلاف توجهاتها و أماكن تواجدها لمواجهة المشروع الاستيطاني الكولونيالي في فلسطين. ومن المهم التذكير بأن الأكاديميين ليسوا فوق النقد، وعليهم التعاطي مع ما يُوجّه إليهم من انتقادات بالتوضيح والتصحيح، بل والاعتذار إن وقعوا في أخطاء، فهذا يعزّز دورهم ومصداقيتهم أمام الرأي العام في مجتمعاتهم في المقام الأول. ولكن، للأسف، انطلقت أصوات أخرى، تتهم كل من "تطاول على رأس الشرعية الفلسطينية" المتمثل بالرئيس عبّاس، بحسبها، وتشتمهم وتخوّنهم، في إشارة إلى الموقعين على البيان. محزنٌ حقاً أن يسود هذا الخطاب في الأوساط الفلسطينية التي تكتوي جميعها بسياط الاحتلال، بحيث يدّعي كل من أطلق مثل هذه الشتائم "احتكار الوطنية"، فيوزّع شهاداتٍ في "الانتماء لفلسطين" على الغير.

لا توقيت ما صدر عن عبّاس عن اليهود في زمن النازية مناسب، ولا مكانُه، في المجلس الثوري لحركة فتح

من الخطأ المزايدة بعضنا على بعض من قدم ويقدم لفلسطين، وليس لأحد الحقّ في الانتقاد أكثر من غيره. لكن، إذا وصلت الأمور إلى هذا المستوى، فمن هاجموا الأشخاص (وليس الأفكار في بيان الأكاديميين والمثقفين) مدعوون لتكليف أنفسهم بالاطلاع على ما قدّمه هؤلاء على الساحة الدولية، من دون ان يتقاضوا رواتب ومخصّصات من الميزانية العامة للسلطة الفلسطينية أو يتنافسوا على وظائف في هياكلها. هم حقاً مدعوون للاطلاع، مثلا، على أعمال المؤرّخ الفلسطيني رشيد الخالدي الذي وقف، عقودا، سدّاً منيعاً مدافعاً عن عدالة القضية الفلسطينية في أهم منابر الولايات المتحدة، جامعة كولومبيا، أمام لوبيات صهيونية واسعة على الساحة الأميركية، وتحول كتابه "حرب المائة عام على فلسطين" بالإنكليزية إلى وثيقةٍ لا يمكن للباحث في أي مكان يبحث في الصراع الفلسطيني الإسرائيلي الاستغناء عنها. وكذلك الرئيس السابق للحملة الأميركية لإنهاء الاحتلال الإسرائيلي، يوسف منير، وهي الحملة التي وصلت أصواتها عن عدالة القضية الفلسطينية إلى ملايين الأميركيين، ونورا عريقات التي تدافع بشراسة في الإعلام الأميركي عن فلسطين، وتنفق في هذا وقتا ربما يفوق الذي تمضيه مع أفراد أسرتها، بطلاقة نادرة. والقائمة تطول، فربما احتجنا لكتب لتدوين بعض ما يقوم به عديدون ممن هم على القائمة. ولا بد من التذكير هنا بأنه ولأول مرة في تاريخ القضية الفلسطينية تتفوّق نسبة التعاطف مع الفلسطينيين في أوساط الحزب الديمقراطي (الحاكم)، حيث وصلت إلى نسبة 49% مع الفلسطينيين مقابل 38% مع الإسرائيليين، حسب أهم استطلاعات الرأي مصداقية في أميركا.

من العدالة للجميع القول إن هذه التحوّلات لم تحدُث من الفراغ، ولم تساهم فيها الأصوات التي انطلقت بالشتائم والتخوين، إنما بفعل شبكة علاقات واسعة من العاملين على الساحة الأميركية. يأتي بعضٌ مهم ممن وقعوا على البيان من هذه الخلفيات، وآخرون نذروا أنفسهم، في الجاليات العربية والمسلمة، للتأثير في صناعة القرار الأميركي، مثل الباحث النشط أسامة أبو ارشيد وآخرين ممن نجحوا في أن يكون لهم تأثير مهم. ومن الضروري التذكير بأن المزايدة تكمن بالفعل الوطني على الساحتين الفلسطينية والدولية، وليس بالقعود وإصدار تصريحات الشتائم والتخوين.

وبالعودة الى بيان إدانة تصريحات محمود عبّاس، ، يلاحظ في الصحافة الأجنبية تراجع أثر التصريحات عن المحرقة على القضية الفلسطينية، ربما ليس على عبّاس نفسه، بسبب وجود أصوات مثقفين تعارض الربط بين المسألتين وتدينه، حيث تم الاستشهاد بها بدوائر جدل عديدة. ولم يكن على الرئيس الفلسطيني التدخّل في مثل هذه المواضيع، كونها من اختصاص المؤرّخين، الذين إن أخطأوا يتحمل المؤرّخ الخطأ وحده، أما عندما يخطئ الرئيس الممثل للفلسطينيين، في كل أماكن وجودهم، فهو ممثلهم قبلوا أم لم يقبلوا، فثمن هذا الخطأ يدفعه الـ 14 مليون فلسطيني والمشروع الوطني الفلسطيني، فلا توقيت ما صدر عن عباس عن اليهود في زمن النازية مناسب، ولا مكانه، في المجلس الثوري لحركة فتح.

لا يملك الأكاديمي المثقف العضوي والمشتبك إلّا أن يرفع صوته من دون مواربة، متحسّساً البوصلة الوطنية، محاولاً صياغة موقفٍ يعبر عن ضمير مجتمعه وقضاياه الوطنية

لم يكن كاتب هذه السطور يوماً من هواة نقد الرئيس الفلسطيني وجلده، فعندما وقف في وجه الرئيس الأميركي السابق، دونالد ترامب، وصفقته المشؤومة (صفقة القرن)، وقاطع إدارته برمتها، كنت من أول المدافعين عنه وعن قراراته، ونشرت مقالاً وقتها في "العربي الجديد" في 10/6/ 2019، ردّاً على من كانوا يطالبونه بالاستقالة، بعنوان "ليس على القيادة الفلسطينية أن تتنحّى الآن"، وتعرّضت للانتقاد من كثيرين وقتها، بسبب الدفاع عن الرئيس عبّاس. أما حاليا، فقد فقدت القضية الفلسطينية الرؤية بعد موت حل الدولتين، والانقسام الفلسطيني تجذّر وصار إنهاؤه شبه مستحيل، ومنظمة التحرير معطّلة، وتم تفريغها من محتواها منذ اليوم الأول لقدوم عبّاس إلى الحكم، عندما اصطدم مع رئيس الدائرة السياسية في المنظمة، فاروق القدومي، وحوّل جميع صلاحياتها للسلطة، واللجنة المركزية لحركة فتح مقسمة ومهمشة، والمجلس الوطني الفلسطيني لا يستفيق إلا ليصدر أحدهم بيانا باسمه يهاجم من دانوا قول عبّاس عن اليهود وهتلر، ولكنه لا يفيق على حملة الاستيطان المسعورة وازدهار التنسيق الأمني، والانتخابات الفلسطينية التي تُلغى بجرّة قلم، وتوصيات المجلسين، المركزي والثوري، في ضبط العلاقة مع الاحتلال الإسرائيلي يتم ضربها بعرض الحائط... باختصار شديد، وصلت القضية الفلسطينية في عهد الرئيس محمود عبّاس الى أدنى مستوياتها منذ وعد بلفور عام 1917. وإذا كان من مجانبة الحق تحميله شخصيا والقيادة الفلسطينية هذا التدهور، إلا أن من المهم عدم إنكار غياب دور فلسطيني فاعل في الحفاظ على الحقوق الفلسطينية.

إزاء هذا المستوى من الانحدار، لا يملك الأكاديمي المثقف العضوي والمشتبك إلّا أن يرفع صوته من دون مواربة، متحسّساً البوصلة الوطنية، محاولاً صياغة موقفٍ يعبر عن ضمير مجتمعه وقضاياه الوطنية، مهما كلفه ذلك من ثمن. وغير ذلك، من الأجدر به تغيير مهنته أو دوره. ليعمل الرئيس الفلسطيني على إنهاء حالة الترهل التي وصلت إليها حركة فتح في عهده، ويعقدْ المؤتمر الثامن للحركة، ويُجر انتخابات نزيهة لمجلسها الثوري ولجنتها المركزية، ويعمل على إنهاء الانقسام الفلسطيني، ويُعد بناء منظمة التحرير على أسسٍ وطنية، ويحارب الفساد في أوساط السلطة الفلسطينية، ويعقد انتخابات رئاسية وبرلمانية شفّافة. عندها سأتحوّل، ومثلي أكاديميون ومثقّفون فلسطينيون كثيرون أعرفهم، إلى مناصرين لمشروع محمود عبّاس النهضوي بحركة فتح والقضية الفلسطينية. وغير ذلك، على المثقف العضوي المحافظة على دوره المستقل، وتجنّب الالتحاق بمسلسل الهتاف للهزائم والانهيارات الوطنية المتلاحقة.

72478755-BF4C-4404-BEA5-3BD4550BCDF4
72478755-BF4C-4404-BEA5-3BD4550BCDF4
إبراهيم فريحات

أكاديمي وباحث فلسطيني، رئيس برنامج إدارة النزاعات في معهد الدوحة للدراسات العليا.

إبراهيم فريحات