الجديد في المبادرة الفلسطينية نحو مؤتمر وطني

الجديد في المبادرة الفلسطينية نحو مؤتمر وطني وقيادة موحّدة

01 ابريل 2024
+ الخط -

أطلقت مجموعة كبيرة من شخصيات وطنية فلسطينية وازنة وناشطين فلسطينيين وأكاديميين ومثقفين وأدباء ونقابيين وأسرى محرّرين وأعضاء في المجلس الوطني الفلسطيني نداءً دعوا فيه إلى تشكيل قيادة وطنية موحدة وعقد مؤتمر وطني يهدف إلى إعادة بناء منظمّة التحرير على أسس وطنية وديمقراطية ممثلة للكلّ الفلسطيني في مختلف أماكن وجوده. وقّع أكثر من خمسمائة شخصية على النداء، والأعداد تتزايد.
ليست هذه المرّة الأولى التي تُطلق بها مبادرات، وتنادي بها شخصيات وطنية، وتدعو إليها فصائل من داخل منظمة التحرير وخارجها لإعادة بناء هذا الجسم الممثل للشعب الفلسطيني في كل أماكن وجوده والتي حصلت بها المنظمّة على هذا التمثيل نتيجة تضحيات هائلة لم يبخل بها أبناء الحركة الوطنية الفلسطينية من مختلف تياراتهم الفكرية والتنظيمية. وبالتالي، ضمان فاعلية منظمّة التحرير وتمثيلها مسؤولية وطنية تقع على عاتق جميع أبناء الشعب الفلسطيني أينما كانوا.
وبما أن الدعوة إلى إعادة بناء منظمة التحرير على أسس وطنية ديمقراطية ممثّلة ليست أمراً جديداً، حيث سبقتها دعوات كثيرة مشابهة، فما الجديد الذي تحمله المبادرة، وما الإضافة النوعية التي تضيفها إلى المبادرات السابقة إذاً؟ ... بداية، تناغم هذه المبادرة مع سابقاتها، وتأكيد ما جاءت بها المناشدات الأخرى، يشكّل بحد ذاته إجماعاً ما بين المبادرين من مشاربهم المختلفة على هدفٍ مركزي، وعلى ضرورة وطنيّة ملحّة لتماسك المشروع الوطني الفلسطيني. يعطي التقاء المبادرات فيما بينها على ضرورة وطنية متمثلة بإعادة بناء منظمة التحرير شرعية وطنية للمبادرات التي يلتقي جميعها على هدفٍ واحد، حيث تأتي الشرعية من الشعب ذاته بقياداته المجتمعية على مستوى مختلف الشرائح الاجتماعية. بلغةٍ أخرى، مناداة هذه المبادرة إلى عقد مؤتمر وطني وإعادة بناء منظمّة التحرير يكمل ما جاءت به المبادرات الأخرى، ولا يتناقض معها.

ما زالت الحكومة الإسرائيلية ترفض أي دور للسلطة الوطنية الفلسطينية في ما يسمّى "اليوم التالي" في قطاع غزّة

من الضروي الانتباه إلى أن التغيير تاريخياً، المتمثل هنا بإعادة بناء المنظمّة، لا يأتي في العادة دفعة واحدة أو بسبب حدث واحد، بل ضمن سيرورة تراكمية تدفع الأحداث إلى الأمام. فالمبادرة الجديدة، وإن نجحت بعقد مؤتمر وطني يقود إلى إعادة بناء منظمة التحرير، فذلك يكون بسبب تراكم المبادرات الهادفة إلى التغيير، لا نتيجة لحدثٍ واحد فقط، كذلك ستساهم هذه المبادرة بكل الأحوال بعملية تراكميّة مستقبلية ستقود حتماً إلى إعادة بناء الجسم المترهّل للمنظمة.
من جهة أخرى، أهمية هذه المبادرة بهذه اللحظات التي تمرّ بها القضية الفلسطينية من إبادة جماعية في غزّة، ومحاولة لتصفية مشروع الدولة الفلسطينية، تجعل منها ضرورة وأولوية وطنية لبناء قيادة موحّدة تتعامل مع هذه التحدّيات التي من الواضح أن البنى السياسية الموجودة على الساحة الفلسطينية غير قادرة على التعامل معها، ويشمل ذلك السلطة الفلسطينية المهمّشة في رام الله وقيادة حركة حماس في الداخل والخارج، وكذلك جسم منظمة التحرير الذي يعيش منذ عقود حالة موت سريري.
ما زالت الحكومة الإسرائيلية ترفض أي دور للسلطة الوطنية الفلسطينية في ما يسمّى "اليوم التالي" في قطاع غزّة، رغم الضغوط الأميركية بهذا المجال. فالسلطة إذاً مغيّبة حسب القرار الإسرائيلي من قطاع غزّة، وكذلك الحال طبعاً بالنسبة إلى حركة حماس. ومن هنا، يأتي الخيار الوطني الفلسطيني الذي سيعزّز من حالة المواجهة، وهو منظمة التحرير، وذلك بعد تفعيلها وإعادة بنائها، كما تنادي هذه المبادرة، التي ستشكّل الخيار الوطني غير الخاضع لابتزازات الحكومة الإسرائيلية المالية (مثل المقاصّة وخصومات الأسرى)، والتي يمكنها أن تواجه وتفاوض وتمثل الشعب الفلسطيني كما فعلت في التسعينيات.

وصلت القيادات الفلسطينية إلى درجة غير مسبوقة من الضعف في مواجهة المخطّطات الأميركية والإسرائيلية

المشكلة بالبنى السياسية الفلسطينية الحالية التي يجب تعزيزها بمنظمّة تحرير فاعلة وممثلة ليست فقط مع الحكومة الإسرائيلية، ولكن أيضاً الإدارة الأميركية التي لا تتوقف عن ابتزاز السلطة الفلسطينية لكونها المانح الأساسي لشرعيتها الدولية. كان لافتاً للنظر أن يضم زعيم الأغلبية الديمقراطية في مجلس الشيوخ الأميركي، تشاك شومر، بين ما سمّاها عقبات السلام، بالإضافة إلى نتنياهو واليمين الإسرائيلي المتطرّف وحركة حماس، الرئيس محمود عبّاس الذي لم يبخل تاريخياً بتحقيق ما طلبته منه عدّة إدارات أميركية، فكان هذا جزاءه. ومن الجدير ذكره أن الابتزاز الأميركي لم يتوقف عند هذه اللحظة، حيث ذكرت مجلة بوليتيكو الأميركية نقلاً عن مسؤولين أميركيين أن إدارة الرئيس بايدن تقترب من اتفاق مع السلطة الفلسطينية على إعادة النظر في دفع مخصّصات الأسرى وذوي الشهداء، وهو الذي اعتبر تاريخياً خطّاً أحمر لكل الفصائل الفلسطينية. 
تأتي أهمية مطالب المبادرة بإعادة بناء منظمّة التحرير في هذا الوقت من حقيقة مفادها بأن القيادات الفلسطينية وصلت إلى درجة غير مسبوقة من الضعف في مواجهة المخطّطات الأميركية والإسرائيلية. فالسلطة الفلسطينية يجري ابتزازها على أعلى المستويات، على الأقل في ما تسميه الإدارة الأميركية "السلطة المتجدّدة"، والمتوقع من هذه المتجدّدة الإخلاص أكثر في الملف الأمني، وقيادة "حماس" منهكة مشتتة تحت الأرض في الداخل والجزء الآخر في الخارج. ولذا ستشكّل قيادة فاعلة لمنظمّة التحرير البديل الفاعل غير خاضع للابتزازات، والذي يمكنه العمل من خارج سقف السيادة الإسرائيلية على مناطق العبور إلى الوطن المحتل.

ستشكّل قيادة فاعلة لمنظمّة التحرير البديل الفاعل غير خاضع للابتزازات، والذي يمكنه العمل من خارج سقف السيادة الإسرائيلية

يؤكّد تاريخ النضال الوطني الفلسطيني، وتحديداً الجزء المتعلق بالانتفاضة الأولى، ما تدعو إليه هذه المبادرة بضرورة تشكيل قيادة وطنية فلسطينية موحّدة تتعامل مع التحدّيات الوطنية غير المسبوقة. يتذكّر الذين عايشوا الانتفاضة الأولى كيف كانت القيادة الوطنية الموحّدة، رغم أنها تعمل في الظل، تملك الشرعية الوطنية النابعة من الشعب وممثليهم في الفصائل السياسية، وتملك أيضاً القدرة والسيطرة على إدارة المشروع الوطني، رغم كل ما كانت تتعرّض له من مضايقات إسرائيلية بالاعتقال والإبعاد وغيرهما، إلا أن ذلك لم يفتّ في عضدها طوال ست سنوات من الانتفاضة. هناك حقاً دروس مشرقة ومضيئة في التاريخ النضالي للحركة الوطنية الفلسطينية، بخلاف واقع الهزائم اليوم، وما أحوج الفلسطينيين اليوم وطنياً إلى أن نستقي الدروس من التجربة الوطنية ذاتها، وهو ما تدعو إليه المبادرة الجديدة لتشكيل قيادة وطنية موحّدة وعقد مؤتمر وطني يقود إلى إعادة بناء منظمة التحرير على أسس وطنية وديمقراطية ممثلة للوجود الفلسطيني في مختلف الأماكن.

72478755-BF4C-4404-BEA5-3BD4550BCDF4
72478755-BF4C-4404-BEA5-3BD4550BCDF4
إبراهيم فريحات

أكاديمي وباحث فلسطيني، رئيس برنامج إدارة النزاعات في معهد الدوحة للدراسات العليا.

إبراهيم فريحات