صرخة في سبيل العربية والهوية

صرخة في سبيل العربية والهوية

24 يناير 2021
+ الخط -

مما يوجب التوقف طويلاً مع التهجير والشتات في مثل حالتنا السورية وأبناء العربية عامة قولُ غوستاف لوبون: "إذا استُعبدت أمة ففي يدها مفتاح حبسها ما احتفظتْ بلغتها"، وقد يراها أناسٌ ضرباً من المبالغة والخيال؛ لكنّ الواقع شاهد بذلك، ولو أننا استنطقْنَا التاريخَ لَوجدناه يشهد بذلك.

وما ذاك إلا لأن اللغة مفتاح هوية المرء، ومَن أضاع لغته فقد أضاع نفسه وخسر هويته، ومَن يخسرْ هويته يبقَ ما عاش هائماً تائهاً وإن حوى في جيبه جوازات سفر من شتى الألوان؛ فينتسب مرةً في هؤلاء فيدفعونه، ومرةً في أولئك فيرفضونه.

وقد تبدو الصرخة في سبيل العربية مع المياه تغمر مخيمات أهلنا في الشمال ومع الثلوج تحاصر المخيمات في عرسال ضرباً من العبث ولغو الحديث؛ لكنّها ما دامت في سبيل حفظ أطفالنا فليست كذلك، بل هي صرخة في محلّها ولا بد من تكرارها على الدوام؛ فالموت والفقدان والغرق ليسوا بلونٍ واحد!

فأيُّ غرقٍ وأيُّ فقدانٍ أشد من آلاف الأطفال يندمجون في المدارس التركية مثلاً اليوم، فنسعد لتفوّقهم؛ وإذا جئتَ تسألهم في العربية والقرآن الكريم نظروا عن اليمين والشمال لا يدرون عما تتكلم، وقل أشد من ذلك في مَن لجؤوا إلى أوروبا وغيرها، وما زلنا في أول عقد من الشتات؛ فماذا ينتظرنا ونحن لا نرى للنفق الذي أُدخلنا فيه مخرجاً؟!

ومنذ عقود طويلة صرخَ عالم شاميّ يدعو الناس إلى وعي لغوي صحيح، فقال الدكتور المبارك: "لا يبلغ الوعي السياسي ولا الوعي القومي مداهما ما لم يقترنا بالوعي اللغوي السليم"؛ فلننظر جيداً في أحوال الأمم التي نقلّدها ونعجب بها لأنها أمم غالبة، وقد صرنا مغلوبين مهزومين: هل تخلّوا عن لغتهم في أشد ما مرّوا به؟ الجواب القطعي "لا"، وما مثال تركيا واليابان وغيرهما عنا ببعيد.

اللغة -أية لغة كما حكَى ابن خلدون وغيره-، لا تبقى وتكون ملكةً لغويةً إلا بثلاثة مسارات؛ فالأول جودة المحفوظ، والثاني الفهم، والثالث الاستعمال

وإنْ جهلَ الطلاب هذا فلا عجب؛ ولكنّ العجب كل العجب أن يجهل الأهالي والمثقفون هذا أو يتجاهلونه!

فمن ادّعى أن الحرص على التميّز الدراسي والاندماج الاجتماعي في الوسط المضيف يستلزم نسيان اللغة الأمّ والتنازل عن الهوية؟ فلنقرر بثقةٍ أن التميّز الدراسي والاندماج الصحيح يقتضي أن يحافظ المرء على رأس ماله في لغته وهويته؛ وإلا فهو يذوب في الآخر الغالب ولا يندمج، فإن أرادت الدول المضيفة هذا فلأنها تنظر مصلحتها قبل كل شيء؛ فأين النظر في مصلحتنا؟ وما العذر لنا أن نقبل بالذوبان دون الاندماج؟! وهل ما عندنا سخيف مرذول نتوارى به عن الناس حتى ننبهر ونأخذ كل ما عندهم لأنه خير مما عندنا؟!

ألا فلنتذكر أن عندنا خير بضاعة؛ عندنا كتاب الله القرآن الكريم، ومفتاحه العربية، ويا بؤسَ مَن يضيع مفتاح كتاب ربّه إعجاباً بأي شيء! عندنا لغة هي أوسع اللغات في مدارجها وجذورها وخصائصها؛ وليس هذا من قولنا فحسب، بل من كلام غير العرب وغير المسلمين، ولا ينازع فيه إلا جاهل أو متعصب حاقد.

لنستحضر قول كارل فوسلر اللغوي الألماني: "اللغة وطن روحي يُؤوي مَن حُرم وطنه على الأرض"، وقول الفيلسوف هايدغر: "إن لغتي هي مسكني، وهي موطني ومستقري، هي حدود عالمي الحميم ومعالمه وتضاريسه، ومن نوافذها ومن خلال عيونها أنظر إلى بقية أرجاء الكون الواسع"؛ لنزداد يقيناً أننا بحاجة ماسّة للاحتفاظ باللغة العربية عند أبنائنا في أي بلد أقمنا ومع أية جنسية حصّلنا.

مضت عقود على عشرات الآلاف من الأتراك في ألمانيا وغيرها؛ وما زالوا يحافظون على لغتهم وانتمائهم. وحين سُئل بسمارك عن أفظع الأحداث التي حدثت في القرن الثامن عشر أجاب: "إن الجاليات الألمانية في شمال أمريكا اتخذت اللغة الإنكليزية لغة رسمية لها"! وأكثر الناس اليوم يعجبون بنهضة الأتراك من بعد ما عانوا وحاربوا، ومثلهم في ذلك اليابان بعد كسرها في الحرب العالمية الثانية؛ لكننا نغفل عن أن هذين البلدَين من أشد البلدان تمسكاً باللغة الأمّ وأن اليابان قبلت كل شروط الهزيمة عدا التنازل عن اللغة اليابانية في التعليم والنهضة، ثم نهضت بلغتها أفضل مما أراده لها غالبوها. واليهود في فلسطين المحتلة أشد من غيرهم في التعصّب للعبرية، وبها نادوا بيهود العالم وجمعوهم ونهضوا بدولة نضحك على أنفسنا إنْ بررنا تميّزها بدعم الغرب وحده؛ وفي بلداننا الإسلامية ما يفوق "إسرائيل" غنىً ومالاً لكنها دونها بمراحل في إرادة النهضة، ومن أعظم أسباب ذلك أننا نحاول النهوض بنهضة مستوردة نرضى منها بما يُعطى لنا وكما يريده الغالب لنا؛ لأننا تنازلنا عن لغتنا وعزّتنا بخلاف ما فعل اليابانيون والأتراك، وحتى "الصهاينة" مع الأسف!

فلماذا يسهل علينا التنازل عن لغتنا وهي مفتاح عودتنا وعصب انتمائنا وهويتنا؟!.. والمقال في هذا قد يطول، لكنها هنا صرخة في سبيل أبنائنا، وهم رأس مالنا وبوابة أملنا في سورية الحرة التي خرجنا من أجلها.

فلابد ابتداءً من بثّ الاعتزاز بالعربية في نفوس السوريين كباراً وصغاراً، أينما رمتْهم ريح التهجير؛ فهذا الاعتزاز يعدّل الهزيمة النفسية التي نجدها -نحن اللاجئين المشردين- ويرتفع بالعزيمة للمحافظة على هويتنا، ولا هوية تبقى دون اللغة الأمّ. ولكنّ هذا لا يعني بحالٍ الانغلاق؛ فمن أهمّ خصائص عربيتنا المرونة في ذاتها وتجاه غيرها فتأخذ وتُعطي، فلنأخذ ببعض طباعها، ولنحمل عن الآخرين كل جميل؛ ولكن دون أن يخطف أبصارَنا جمالُ ما عندهم فنترك الأجمل الذي عندنا في لغتنا. ودون أن ننساق وراء كلام الجهلة بالعربية فنصدّق صعوبتها ووعورة قواعدها، فهي تهاويل فارغة، وكما قال العزّ بن عبد السلام: "وشيءٌ قد أحكمتْه القدماء لا يُترك مراعاةً لجهل الجاهلين"؛ فليأخذ كلٌّ من العربية ما يحفظها عنده وعند أبنائه بأيسر الطرق.

لكنّ اللغة -أية لغة كما حكَى ابن خلدون وغيره-، لا تبقى وتكون ملكةً لغويةً إلا بثلاثة مسارات؛ فالأول جودة المحفوظ، والثاني الفهم، والثالث الاستعمال.

وخير ما يُحفظ من العربية القرآن، فلنأخذ الأطفال بحفظ ما يستطيعون منه، وبعد القرآن فليكن الأدب؛ ففيه كذلك لغة وأخلاق وقيَم، وما أجمل قول الزيّات: "الأدب هو الجزء الروحي من الإنسان، وحال الأدب مقياس صحيح لحال الشعوب .. فإذا أردنا أن نلائم بين روح الإنسانية وجسمها، ونوفّق بين قلبها وعقلها، ونقرّب بين عاطفتها ومنفعتها؛ فلنحارب المادة بالأدب، والإلحاد بالدين، والأنانية بالغيرية، ولنبالغْ في دراسة الأدب الصحيح وممارسته؛ فإنه شعاع الحسّ اللطيف وعطر النفس الزكية وعصارة القرائح الخصيبة".

وفي عيون الشعر العربي نماذج تسهل على الأبناء وتبعث فيه تاريخ الأمة وعزّتها؛ ولن تصعب عليهم قصيدة رثاء الأندلس "لكل شيء إذا ما تمّ نقصان" ولا قصيدة ابن زريق "لا تعذليه فإن العذل يولعه"، ولا بعض قصائد زهير والمتنبي، وإن صعبت ففي شعر عمر أبو ريشة والزركلي قصائد تفيض لها النفوس والعيون: "أمّتي هل لك بين الأمم منبر للسيف أو للقلم"، وقصيدة "العين بعد فراقها الوطنا .. لا ساكناً ألفت ولا سكنا" .. فلتكن لهم ألحاناً وأغانيَ يرقصون بها في البيوت.

ولنجلس مع أبنائنا وبناتنا في رحاب العربية من أجل الفهم نتدارس ما يقرؤون ويحفظون، وقد رضيتْ دول كبرى بأنظمة تعليمية كاملة عن بُعد؛ فلا نتكاسل أن نستفيد من المتاح افتراضياً في ترميم النقص عندنا فلسنا جميعاً لغويين ومعلمين. ثم لنحرص على الحديث بالعربية، وإن عجزنا عن الفصحى فليقرأ كل واحد ما بيده بصوت مسموع لتبقى في آذاننا، وفي "يوتيوب" مقاطع كثيرة لكتبٍ ومتونٍ ولعيونٍ من الأدب بأصوات خفيفة على الأذن محببة للروح. ولنحذرْ أن تكون لغة البيت غير العربية؛ وحاشا أن نضحك على أنفسنا بأنّ حديث الإخوة في البيت يضمن لهم التفوّق الدراسي في لغة التعليم!

 ولنحرصْ دائماً أن نجلس في بيوتنا نقرأ أو نسمع شيئاً من تاريخنا الإسلامي الذي ننتمي إليه، ولنحدّثْ أبناءنا عن وطنٍ لولا أن المستبدّين أخرجونا منه ما خرجْنا؛ فنجمع في نفوسهم أطراف هوية يُراد لها الضياع، وإن ضاعت ضاع أطفالنا وهم مستقبلنا. ولنكن أبناء بررة بلغتنا الأمّ؛ فإنَّ "شرَّ الأبناء مَن دعاه العجزُ إلى العقوق، وإنَّ خيرَ الأبناء مَن دعاه الوفاء إلى البرّ ورعاية الحقوق؛ فلابد من الوفاء للغة العربية صاحبة الجلالة، فهي أمّ كل مَن قال: أنا عربيّ، وهي صلاة كل مَن قال: أنا مسلم".

FF42C82E-9059-442A-8E7C-BF37B4B60BBB
ياسين عبد الله جمول

دكتوراة في اللغة العربية وآدابها، محقق وباحث مدقق في كتب التراث لبعض دور النشر، مشرف مدرسة سورية في تركيا، مدير جمعية تعليم خيرية لتعليم الأطفال السوريين، رسالتي للماجستير مطبوعة مع أبحاث علمية وكتابات أدبية وسياسية منشورة.الحياة مدرسة يتعلم منها الإنسان ما لا يتعلمه في مدرسته وجامعته مهما علت درجته العلمية، فعلينا أن نعي جيدا عن الحياة دروسها ونعرف أسباب النجاح فيها، لننجح، كما نهتم في المدرسة بما يضمن نجاحنا في صفوفها حتى التخرج.