نزاعات الملكية في لبنان... صراعات للسيطرة على عقارات الدولة

نزاعات الملكية في لبنان... صراعات للسيطرة على عقارات الدولة

07 مارس 2022
الملكيات المشاعية تثير إشكاليات تصل إلى القتل (العربي الجديد)
+ الخط -

تثور صراعات بين بلدات لبنانية، بسبب أنماط الملكية المتوارثة منذ العهد العثماني، إذ يسعى كل طرف للسيطرة على المشاعات وضمها إلى حدود الإدارية عبر وضع اليد، في ظل إخفاق قانوني وثغرات تحول دون القضاء على المشكلة.

- ذهب اللبنانيان رامي البعريني من بلدة فنيدق، وغازي ميتا من بلدة عكار العتيقة ضحايا للنزاع المسلح الذي وقع بين أهالي البلدتين، في محلة الوادي الأسود التابعة لعكار العتيقة عند أطراف قرية القموعة في قضاء عكار شمال لبنان، في أغسطس/ آب 2021.

وبحسب أحمد البعريني أحد وجهاء فنيدق، فإن القتيل جرى استهدافه أثناء تنزهه مع عائلته في القموعة المتنازع عليها، ومردّ هذا النزاع بحسب الوكيل القانوني لبلدية عكار العتيقة عباس ملحم محاولة كل طرف وضع يده على أراضي قرية القموعة ذات الموقع المميز والأشجار النادرة وتبلغ مساحتها 17 مليون متر مربع، من أجل ضمها إلى حدوده الإدارية، وهذا النزاع جزء من صراعات طويلة ومتعددة على ما يسمى بالأراضي الأميرية والتي تملكها الدولة، وللأفراد حق استعمالها، وفق قانون الملكية العقارية رقم 3339 الصادر في 12 نوفمبر/تشرين الثاني عام 1930.

لماذا تثير العقارات الأميرية النزاعات؟

يعود الصراع على الملكيات الأميرية، والتي يقدر عددها بـ 31849 عقارا أكثرها في بعلبك بنسبة 34% من الإجمالي والبقاع الغربي 23% وراشيا 17 %، نتيجة التمييز بين المناطق في حق التملك منذ الحكم العثماني، إذ ساد نمط الملك الخاص في منطقة جبل لبنان الممتّدة من بشّري إلى جزّين، في حين أن بقّية المناطق اعتبرت أراضيها وعقاراتها أميرية، أي تخص الحاكم، والمتصرف (المنتفِع)، له عليها حق يسّمى حق التصرف يسقط إذا تخلى صاحب الأرض الأميرية عن استعمالها مّدة 5 سنوات متتالية، بحسب دراسة "إلغاء نظام الأراضي في لبنان: من يدافع عن حقوق الدولة؟"، والتي أعدتها مؤسسة "ستوديو أشغال عامّة" (بحثية حقوقية غير حكومية).
 
وبعد صدور تشريعات متلاحقة، اتسعت تدريجيا حقوق المتصرف، فأصبح حقه عينيا يدوم مدى الحياة وينتقل إلى ورثته ويجوز له البناء والغرس والرهن، وأصبح الطابو سندا رسميا تثبت الملكية نهائيا لحائزه، وفق إفادة المحامي طلال فاضل المتخصص في قانون الملكية العقارية، لذلك أصبحت الأملاك الأميرية بما فيها المشاعات، تثير إشكاليات كثيرة في لبنان، لكون تملكها تم من خلال وضع اليد عليها، وما زالت بحاجة إلى أعمال المساحة لتحديد مساحتها وحجمها في مناطق عديدة من لبنان، كما يوضح فاضل.

31849 عقارا أميريا في لبنان أكثرها في بعلبك

وللحدّ من المنازعات حول الأراضي الأميرية، سعى مشروع قانون قدّمه النائبان غازي زعيتر وحسين الحاج حسن إلى مجلس النواب، في يناير/كانون الثاني عام 2012، للانتقال إلى مرحلة القيود العقارية الثابتة (أي تقييد تلك الملكيات وتسجيلها بصورة نهائية في السجلات العقارية)، "لكن هيئة التشريع والاستشارات في وزارة العدل لم تقبل الاقتراح لأنه يجيز التنازل عن أملاك الدولة دون مقابل، ويمهد إلى خصخصة أملاك الدولة تحت ذريعة إحقاق المساواة بين المناطق وعدم التمييز بينها"، بحسب دراسة "إلغاء نظام الأراضي في لبنان (..)".

ويوضح فاضل أن هذا المقترح يقرّ فكرة توحيد أشكال الملكية العقارية بحيث لا يكون إلا النوعين، الملك العام والخاص، وبالتالي فإن الأراضي إما تصبح خاضعة للأفراد أو للدولة، وهذا يتطلب اعتماد تقنية المسح المتطورة من أجل تحديد الأراضي، وبرأيه ذلك لن يشكل مشكلة ولن يستغرق الكثير من الزمن لأن مساحة لبنان ضئيلة وتعادل 10452 كيلومترا مربعا.
 

إشكاليات الحدود العقارية

يعزو مرجع قضائي (أوكل إليه النظر في ملف النزاع على القموعة طلب عدم ذكر اسمه لكونه غير مخول بالتصريح) استمرار الخلاف بين فنيدق وعكار العتيقة، إلى عدم وضع الحدود العقارية لكل بلدة، إذ "تُرك الجرح مفتوحا" حين أعلن القاضي العقاري عام 1972 اختتام أعمال التحديد (وضع حدود فاصلة) والتحرير (يصبح للعقار رقم ثابت في قيود السجل) دون أن يقفل الحدود بسبب النزاعات بين الطرفين على الأحقية في المشاعات واستثمارها، حسب عباس ملحم، محامي بلدة عكار العتيقة.

وما زالت عكار العتيقة تعتبر أن عملية ترسيم الحدود لم تصل إلى خواتيمها، وبقيت الحدود مفتوحة لناحية فنيدق، لذلك أرسل رئيس بلدية عكار العتيقة سابقا خالد بحري كتابا إلى القاضي العقاري أحمد الأيوبي لترسيم الحدود بين البلدتين عام 2006، بينما يتمسك رئيس بلدية فنيدق سميح عبدالحي بقرار اختتام عمليات التحديد والتحرير في عكار العتيقة والصادر عن القاضي العقاري في لبنان الشمالي أسعد دياب، بتاريخ 23 يونيو/حزيران 1972 والمنشور في الجريدة الرسمية العدد57/1972.

الصورة
القموعة 1

واستمر الخلاف بحسب ملحم على 20 عقاراً في القموعة ممسوحة على اسم الجمهورية اللبنانية، وتفوق مساحتها المليون متر مربع، سيطر عليها أهالي فنيدق من خلال قطع الأشجار والحراثة والبناء. ويبين رد موجه من مدير دائرة أمن عام الشمال إلى محافظ لبنان الشمالي في 21 يونيو عام 1995، أحد هذه الاعتداءات بقيام أحد أبناء بلدة فنيدق بإنشاء بناء في أملاك الدولة في سهل القموعة، رغم تدخل مخفر مشمش لمنعه وتظاهر أهالي القموعة أمام المخفر محتجين على المنع وفرقهم الجيش بالقوة، منوها إلى أن العديد من أهالي فنيدق يترقبون الفرصة للقيام بعمل مماثل.

كما قضى قرار صادر عن محكمة الاستئناف في لبنان الشمالي، الغرفة الثالثة الجزائية في 6 يوليو/تموز 2005، بتغريم أحد أبناء فنيدق 10 آلاف ليرة لبنانية، لإقدامه على الاستيلاء دون مسوغ مشروع على عقارين في عكار العتيقة رقم 4716 و4735 والعائدة ملكيتهما إلى الجمهورية اللبنانية، وألزمته المحكمة بهدم الأبنية التي أقامها في العقارين وإخلائهما.

الصورة
فنيدق

بينما يوضح عبد الحي أن الخلاف تأجج حين اكتشفت بلدية فنيدق أن نظيرتها في عكار العتيقة قامت خلال عمليات التحديد والتحرير بمسح 64 عقارا في القموعة، وسجلتها على اسم أفراد من عكار العتيقة، وقدّمت فنيدق اعتراضا على ذلك، ومنذ ذلك الحين لم يصدر أي حكم قضائي حتى تقرر حفظ أوراق القضية في سبتمبر/أيلول 2019. وينفي ملحم من جهته ذلك موضحا أن هناك 35 محضر تحرير وتحديد لعقارات في القموعة فقدت من محكمة القاضي العقاري خلال أحداث عام 1976، كانت محددة وممسوحة لصالح عكار العتيقة، لذلك كلف القاضي العقاري عام 1978 لجنة مساحة لإعادة تكوين بدل ضائع عن المحاضر المفقودة، علما بأن خرائط المساحة بقيت سليمة، وبالفعل أعادت اللجنة تكوين محاضر تحرير وتحديد عوضا عن الـ 35 المفقودة وقام القاضي العقاري بتصديقها عام 1995.

الصورة
انفو لبنان

غياب التحديد والتحرير أيضا كان وراء استمرار النزاع بين المزارعين من أبناء قرية بقاع صفرين في الضنية وبلدة بشري التابعتين لمحافظة الشمال، على "القرنة السوداء" التي تعتبر أعلى قمم جبل المكمل، وهي أرض مشاع، تعود للبلديات إدارتها وتنظيم طريقة استثمارها، وفق المادة 7 من قانون الملكية العقارية وقرار رقم 3339 والصادر في نوفمبر/تشرين الثاني 1930. ومع بدء موسم شح المياه وذوبان الثلوج سنويا، لا يبقى أمام المزارعين غير اللجوء إلى ما يسمى بـ"الثلاجات"، وفق سعد طالب، رئيس بلدية بقاع صفرين السابق، ولذلك تثور النزاعات بين الطرفين على تلك المناطق وما فيها من موارد مائية.

تستمر النزاعات بسبب عدم وضع الحدود العقارية بين البلدات

ورغم إقراره بأن المنطقة لم تخضع للتحديد والتحرير، يزعم فريدي كيروز رئيس بلدية بشري أن "المنطقة ممسوحة لصالح بشري"، إلا أنهم "فوجئوا منذ 3 سنوات بإقامة بلدية بقاع صفرين بركة في منطقة القرنة السوداء بموافقة وزارة الزراعة ودون إعلام بشري بذلك، لذلك لجأت بشري إلى مجلس شورى الدولة، واستعانت في قضيتها التي نظرتها المحكمة المختصة بالطعن على القرارات الإدارية الحكومية، بشهادات رعاة الماعز ممن يتجهون بقطعانهم إلى الجرود صيفا بهدف إثبات الملكية وإلغاء المشروع.

الصورة
بقاعصفرين

في المقابل، تنطلق المحامية زينة فتفت، أحد وكلاء بلدية بقاع صفرين، من خرائط مديرية الشؤون الجغرافية التابعة لوزارة الدفاع وتشير إلى وقوع القرنة السوداء ضمن قضاء الضنية الذي تتبعه بلدة بقاع صفرين، كما تستند إلى واقعة الخلاف على إنشاء بحيرة سمارة لتجميع المياه في القرنة السوداء، حينها أرسل رئيس بلدية بقاع صفرين كتاب رقم 154/2014 إلى محافظ لبنان الشمالي يطلب فيه إظهار حدود المنطقة التي تقع فيها القرنة السوداء، وتمت إحالته إلى دائرة المساحة التي أكدت في ردها الذي حصلت عليه "العربي الجديد" أن بركة سمارة المنوي إنشاؤها هي ضمن قضاء المنية-الضنية ومساحة بلدة بقاع صفرين العقارية وليست ضمن قضاء بشري، وفق الوثائق الرسمية الموقعة من قبل وزارة الزراعة".

نزاعات الملك الخاص

تمتعت منطقة لاسا قضاء جبيل في محافظة جبل لبنان بإدارة أهلها لملكياتهم الخاصة، كونها كانت جزءا من متصرفية جبل لبنان زمن الحكم العثماني، كما يوضح الأب شمعون عون، المكلف من البطريركية المارونية بمتابعة ملف أراضي قرية لاسا المختلطة طائفيا في جرود جبيل.

لكن الطرف الآخر والذي يتحدث باسمه الأستاذ في الفلسفة بالجامعة اللبنانية عصام عيتاوي، معدّ دراسة "المساحة في قرية لاسا - وقائع وحلول" في عام 2011، يقول أن "هذه الأرض التي تبلغ مساحتها 745 هكتارا مملوكة من الأهالي المقيمين منذ مئات السنين، ويعود تحديد هذه الملكيات إلى إحصائيات جرت عام 1870، ومسجلة في الدوائر العقارية ضمن سجلات لبنان القديم الموجودة في سراي جونيه حاليا، وأراضيها تتوزع على عائلاتها بموجب نمر متسلسلة، كل طائفة على حدة، مع تحديد كل نمرة وموقعها الجغرافي"، لكن الخلاف بدأ حين طلبت الأبرشية المارونية عام 1939 مسح البلدة وتم ذلك دون حضور الأهالي الذين اعترضوا لاحقا حسب قوله، وما زال هذا الأمر يتسبب بمشاكل على الملكية، خاصة أن بعض المُلاك من آل عيتاوي لديهم صكوك ملكية لأراض مسحت لصالح الأبرشية، وأحدهم رفع قضية ضد الأبرشية وكسبها عام 1950، بحسب قوله.

في المقابل، يرفض الأب عون الحديث عن نزاع على الملكية العقارية، "كون الأراضي ممسوحة، وتمتلك المطرانية 94 سندا عقاريا تثبت ملكية الأراضي"، رافضا قول عيتاوي بأن المسح تم بدون حضور الأهالي، لأن التحديد الاختياري جرى بحضور المختار حسين مقداد عام 1939 وتوقيعه مدرج على المحاضر وكذلك المساحين الرسميين والأهالي المالكين، وطاول الخلاف العقارات التي اشترتها المطرانية المارونية استنادا لحجج ما بين عامي 1880 و1920، وهذا الواقع استمر حتى عام 2008، حين طلبت المطرانية إجراء مسح نهائي في لاسا، لكن النزاعات التي وصلت إلى حد الاعتداء على المساحين أوقفت العملية، ووضعت عائلات يدها على أجزاء من أملاك المطرانية وشيدوا منازل، و وصادروا أراضي وزرعوها ومنعوا الدرك من تنفيذ إشارة المدعي العام بالإخلاء الذي جاء بأمر قضائي، بحسب عون والذي قال: "رفعنا 70 شكوى تعدٍ تشمل بناء 50 منزلا على أراض تابعة للمطرانية".

لماذا لم تحل الدولة مشكلة التملك ؟ 

فشلت محاولات عديدة لإعلان القموعة محمية خاضعة مباشرة لإدارة الدولة بواسطة قرارات وزارية ومن بينها ما أصدره وزير الزراعة السابق شوقي فاخوري، رقم 588 بتاريخ 30 ديسمبر1996، باعتبار القموعة غابة محمية، لكن القرار لم يسر، وفق المرجع القضائي الذي اختص بالنظر في ملف القموعة، قائلا أن إعلانها محمية من خلال إقرار  تشريعي هو حل قانوني لكنه سيكون بعيدا عن التراضي.

وفي الوقت نفسه لا بد من أن تكون الدولة حازمة وفق المرجع القضائي، لأن العشرات من الضحايا سقطوا على مر الخمسين سنة الماضية بسبب النزاع على المنطقة، وتلا قرار فاخوري اقتراح آخر بإعلانها محمية في عهد وزير البيئة الأسبق محمد رحال ولكن لم تقره الحكومة، بالإضافة مقترح القانون، الذي لم يمر في البرلمان ولم يكتب له النجاح في وقف تداعيات النزاع المستمرة.

الصورة
القموعة
منطقة القموعة المتنازع عليها (وسائل التواصل)

وتعود مبررات رفض مقترح قانون توحيد الملكية لتكون إما خاصة مملوكة للأفراد، أو عامة مملوكة للدولة، بحسب عبير سقسوق مسؤولة قسم العدالة في التخطيط ومديرة الأبحاث بمؤسسة ستوديو أشغال عامة، إلى كونه سيحرم الدولة من الأراضي الأميرية التي تشكل أكثرية الأراضي في الأقضية التي كانت خاضعة للحكم العثماني وتم ضمها إلى دولة لبنان الكبير بموجب قرار المندوب السامي الفرنسي على لبنان وسورية هنري غورو في سبتمبر/أيلول 1920، وتشدد على البعد الاجتماعي للعقارات الأميرية التي تمنح حق التصرف للأفراد والمنتشرة في  المناطق الزراعية، كما أنها سبب لإحياء الكثير من الأراضي التي تستزرع وينتفع بها وتملكها الدولة بصفتها شخصاً معنوياً، وتكلف دائرة أملاك الدولة الخاصة التابعة لمديرية الشؤون العقارية بإدارة هذه الأملاك والإشراف عليها، باستثناء الأحراج التي تدار من قبل وزارة الزراعة، لكن خصخصة هذه الأراضي بحسب سقسوق، ستؤدي الى تراكمها بيد الأقلّية المقتدرة مادّياً وتشريعّياً وسياسياً والتي ستوظفها ضمن القطاعين العقاري والسياحي واللذين لا يؤمنان سوى فرص عمل تعاقدية هشة.